تعتبر العدالة من أهم القيم الأخلاقية في كل المجالات؛ القانون، السياسة والمجتمع. وفي السياق السوري، تصدرت العدالة قائمة مطالب الثورة السورية، إلى جانب الحرية والكرامة، بعد لجوء النظام إلى القمع المفرط والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بحق المدنيين والمدنيات للقضاء على الثورة.
وللعدالة تعاريف كثيرة، وقد تعني أشياء مختلفة لمجموعات مختلفة، إلا أنها جميعها تشير إلى الإنصاف، وهي مهمة للجميع، وعليه فأن العدالة بمفهومها الواسع تعني توفير سبل الانتصاف للضحايا والاعتراف بكرامتهم/ن وتعويضهم/ن إلى جانب معاقبة المرتكبين وضمان عدم الإفلات من العقاب لضمان عدم التكرار.كما أن العدالة كشرط أساسي لبناء السلام لابد أن تكون شاملة ولا تقصي أحداً، أي غير تمييزية على أي أساس كان.
تاريخياً، تشير العديد من الممارسات السابقة للتقاضي بموجب القانون الدولي، إلى تطبيق مساءلة وعدالة متحيزة، لم تلحظ ظروف وأولويات الضحايا والأضرار التي لحقت بهم/ن وبالتالي لم يتم العمل على معالجتها وعلى انصافهم/ن، فمثلاً تم قبول العنف الجنسي على أنه ممارسة لا مفر منها في الحروب، أو على أنها انتهاكات شخصية مخزية لا يجب إعطاءها الأولوية في عمليات المحاسبة. كذلك لم ينظر إلى الآثار الجنسانية المتباينة للعديد من الجرائم، والتي تكون مدمرة أحياناً وخصوصاً على النساء والأطفال، كجرائم الإخفاء القسري والتهجير القسري والنهب وغيرها.
وعليه ومن وجهة نظري، فإن ما يجب تبنيه والسعي إليه اليوم في سوريا هو العدالة الشاملة من منظور نسوي، فما هي هذه العدالة؟
العدالة الشاملة من منظور نسوي، هي العدالة التي تركز في نهجها على الضحايا، جميع الضحايا، وتولي اهتماماً خاصاً بدمج التحليل الجنساني في التحقيق والمساءلة الجنائية عن كل الجرائم الدولية التي تعرض لها الشعب السوري وذلك للكشف عن الدوافع وعن الأضرار المختلفة حسب النوع الاجتماعي وخصوصاً على النساء والأطفال، والتي غالباً ماتكون غير مرئية أو مستبعدة من إجراءات المحاسبة ومعالجتها. وهي تلك التي تولي اهتماماً خاصاً بمصالح وظروف ضحايا/الناجيات والناجين من العنف الجنسي و الجنساني والذين طالما منعتهن/م العقبات والحواجز من الوصول إلى الإنصاف والعدالة.
عند التحقيق في جرائم العنف الجنسي يجب توسيع نطاق التركيز ووضع هذه الجرائم ضمن سياقها العام لأنها لم ترتكب بمعزل عن العنف والتمييز المتأصل في المجتمع، وبالتالي لا يمكن التحقيق فيها وتحديد الضرر الذي يلحق بالضحايا وبالمجتمع بمداه الكامل دون معرفة السياق الأوسع ومعرفة بنى وهياكل القمع وجذوره، وعلاقات القوة في المجتمع.
جميعنا يعرف إن استخدام النظام للعنف الجنسي بشكل ممنهج وواسع النطاق منذ انتفاضة 2011، خصوصاً ضد النساء والفتيات، كان بهدف الإمعان في إذلال المجتمع وتفتيته، حيث اُستخدمت أجساد النساء كسلاح حرب و كأدوات لإرسال رسائل الغطرسة والقوة والانتقام، وقد كان النظام على علم تام بما ستكون عليه العواقب، فاستثمر في العقلية الذكورية التي تربط شرف العائلة والمجتمع بأجسادِ النساء. فقامَ باعتقال النساءِ الناشطاتِ والمشاركاتِ بالثورة، وكذلك زوجات وبناتِ وأخواتِ الثائرين ضدّه للانتقام منهم، وهو على يقين مما ستواجهه الناجية من ناحية الوصم المجتمعي والنبذ والتخلّي بسبب الافتراض المسبق بأنها تعرّضت للاغتصاب، وبذلك ينجح في تفتيت المجتمع وإضعافه على المدى البعيد.
ولا يقتصر الأمر على جرائم العنف الجنسي، إذ ما هي إلا جزء مما تعرض له السوريين والسوريات من جرائم، فهناك الكثير من الجرائم الدولية الأخرى التي ارتكبت على أساس النوع الاجتماعي أو التي كان لها أضرار وتبعات مختلفة، وخصوصاً على النساء والأطفال وأصحاب الهويات الجنسية المختلفة، ومن هذه الجرائم على سبيل المثال لا الحصر:
الاعتقال والتعذيب:
لقد اعتقل نظام الأسد النساء على الحواجز كرهائن عن الرجال من عائلاتهن ويتعرضن للتعذيب الشديد والمعاملة اللاإنسانية فقط لكونهن زوجات وأخوات وأمهات المطلوبين، ولم يسلم حتى الأطفال والفتيات من هذه الجريمة، وعند الخروج من المعتقل غالباً ما تتعرض النساء والفتيات إلى الوصم وإلى سلسلة من العنف قد تصل حدّ القتل، بالإضافة إلى ذلك أشارت العديد من التقارير إلى تعرض ذوي الهويات الجندرية المختلفة إلى التعذيب الانتقامي والمعاملة اللاإنسانية بسبب اختلافهم.
الإخفاء القسري:
للاختفاء القسري عواقب جنسانية تؤثر بشكل خاص على النساء، إذ تحمل الأمهات والزوجات والأخوات والأطفال تبعات الاختفاء القسري المباشرة مع تجرع ألم الانتظار. وغالباً ما تقود النساء عملية البحث عن الحقيقة ومحاولة معرفة مصير أحبائهن، بالإضافة إلى مسؤولية رعاية الأطفال وحماية بقية أفراد الأسرة. وفي رحلة البحث هذه، يكنّ عرضةً لأخطار عدة منها الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري والاعتداءات الجنسية والابتزاز المادي والجنسي وأشكال أخرى من العنف.
جريمة التهجير القسري:
تعرضت عشرات آلاف النساء السوريات وعائلاتهن لعمليات تهجير قسري، ونقلت معظمهن إلى مواقع غير آمنة في أماكن أخرى من سوريا. ولا تزال آلاف النساء يعشن إلى اليوم في ظروف شديدة الصعوبة، مع افتقار شديد للدعم النفسي والصحي والاقتصادي والقانوني والتعليمي وغياب الدعم المجتمعي بسبب فقدان دوائر الدعم و الأحبة والمنازل والوظائف والأدوار الاجتماعية والسياسية. بالإضافة إلى هذه الصعوبات الجمّة تتعرض هؤلاء النساء إلى التهديد والعنف المستمرين من قبل قوى الأمر الواقع المسيطرة، والتي تعتبر كل نشاط للنساء أو محاولة لتحسين ظروف حياتهن أو اكتساب معرفة جديدة هي خروج عن عادات المجتمع ومحاولات "تقويض لأخلاقه ودينه" أو محاولات لتقليد الغرب يجب التصدي لها ومعاقبة المروجات لها.
ولن تتمكن غالبية النساء المهجرات قسراً من العودة إلى ديارهن، فمنهن مطلوبات للنظام السوري وعلى الأغلب أنهن سيواجهن الاعتقال، بالإضافة إلى أن غالبيتهن قد فقدن منازلهن نتيجة قصفها أو مصادرتها. كذلك لا يمكن للكثيرات منهن إثبات ملكية عقاراتهن، على سبيل المثال؛ لا يمكن المطالبة بممتلكات الزوج المتوفى إلا بعد الحصول على شهادة وفاة، ويصعب الحصول على شهادة وفاة في حال لم يتم الكشف عن مصير المفقود، وهذا أشبه بالمستحيل في هذه الظروف.
كحقوقية نسوية تعمل منذ سنوات في التحقيق في الجرائم الدولية والمساءلة، نتبع زملائي/ زميلاتي وأنا في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR،[1] هذه المقاربة في التحقيق في الجرائم الدولية المرتكبة في سوريا بهدف محاسبة المسؤولين وإنصاف الضحايا، وقد نجحنا وبالشراكة مع المنظمات السورية، ومن خلال دعم الناجين والناجيات الشجعان بانتزاع الاعتراف بجرائم التعذيب والقتل والعنف الجنسي كجريمة ضد الإنسانية في حكم محاكمة الخطيب الشهير في مدينة كوبلنز الألمانية، وقد أسس الحكم أرضية قوية لتوسيع جهود العدالة وتفعيلها في البلدان الأوروبية الأخرى. وكذلك نجحنا بفضل الجهود المشتركة للمنظمات النسوية السورية في تقديم دعوى قضائية إلى المدعي العام الألماني من أجل التحقيق في جرائم العنف الجنسي المرتكبة في خمس معتقلات تابعة للمخابرات الجوية في سوريا ومازالت التحقيقات جارية، وقد أدت هذه الجهود إلى إضافة اسم بشار الأسد على لوائح العقوبات الأوروبية في 8 آذار 2022، وذلك لمسؤوليته عن جرائم العنف الجنسي و المبني على النوع الاجتماعي، مع عدد من مسؤولي الحرس الجمهوري. وأستطيع القول اليوم أن ملف العدالة والمحاسبة أصبح حاضراً بقوة على الأجندة الدولية، وأن الجهود القانونية والقضائية بدأت تتكاثف، سواء على صعيد هيئات الأمم المتحدة ومؤسساتها كالدعوة المقدمة إلى محكمة العدل الدولية من قبل هولندا وكندا، أو على صعيد المحاكم الوطنية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، من أجل محاصرة النظام السوري ومحاسبته، وإسقاط كل محاولات التطبيع معه بوصفها انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان والقيم الإنسانية.
أخيراً، لا أضيف جديداً اذا قلت بأنه غالباً ما تأتي العدالة بوقت متأخر جداً عما يتمناه الضحايا ولكن بالنهاية هي عدالة مبنية على حقوق لا يمكن التنازل عنها بأي شكل من الأشكال ومن واجبنا السعي إلى تحقيقها بكل قوة وإصرار مهما طال الزمن، ومن المهم في عملنا في التحقيق والمساءلة توسيع نطاق التركيز واستخدام العدسة التحليلية الجندرية التي تزيد من فرص العدالة الشاملة التي لاتستثني أحداً والتي يجب أن نسعى إليها جميعاً.