مضى أكثر من ربع قرن على صدور كتابي الأول، لم أتخيل أن أستمر في الكتابة لربع قرن كامل، ليست كأي ربع قرن تعايشها كاتبة ما في هذا العالم الواسع، لقد كانت حافلة بالأحداث والتجارب المهمة، رغم أنني اتجهت للكتابة في الظل، بعيداً عن منصات التكريم، وشهادات التقدير، ورسائل القراء والمتابعين، لأعيش تجربة الكتابة في المظاهرات والاعتصامات، ومواكبة حالة الإضراب، ومعايشة الركض هرباً تحت الرصاص الحي، والمشاركة في تشييع الشهداء، والبحث عن كلمات مناسبة يمكن أن تخفف عن أمهاتهم، ثم البحث عن كلمات مناسبة كي لا ييأس رفاق دربهم، كما جربت الكتابة بيدٍ مكسورة، كانت التجربة مختلفة تماماً، نابضة بكل معاني الحياة، فالقضية هنا تتعلق بولادة وطن، وثورة شعب، ورغبة جامحة للتغيير بعد سنوات من الذل والقهر، ومهما تخيلت سابقاً في قصصي و رواياتي، ولكن الواقع أكبر وأوسع من الخيال، فقد عايشت ما لم أستطع تخيله يوماً في سورية، ولم أتمكن من وضع القلم جانباً في كل مراحل الثورة وكل لحظاتها، عشتها بكل جوارحي، ووهبتها كل مشاعري وفكري، كنت أكتب دون توقف!
كتبت عن البدايات المتناغمة مع الربيع العربي، وعن لحظات القوة والانتشار لمطالب الحرية، كتبت عن الدماء التي سالت وقد خرج أصحابها في مظاهراتهم السلمية، وعادوا مخضبين بالدماء، وعن الأطفال والنساء الذين قُتلوا واعتقلوا فقط لأنهم كانوا في طريق العسكر! وكتبت عن المناضلين والمناضلات الذين ضحوا بأرواحهم كي نحيا نحن، ونتابع الطريق، كانت هذه وصاياهم قبل رحيلهم، وستبقى هذه وصيتي حين أرحل.
كان عليّ أن أستجمع في ذاكرتي كماً هائلاً من المشاهد والوجوه والقصص العظيمة والمؤلمة والملهمة، لأفكر كم أنني أحتاج أعمارًاأضعاف عمري الذي عشته كي أتمكن من الكتابة عنها.
مازالت كلمات طفلة في الحصار الذي عشته في مدينتي حمص عالقة في ذاكرتي، عندما سألتها ماذا تحلمين؟ صمتت للحظة تحاول أن تستجمع حلمها، نظرت إلى السماء وكأنها تحاول أن تلتقط حلمها الشارد كطير قرر أن يهاجر بعيداً، ثم نظرت في عينيّ وقالت: لم يعد لدي أي حلم! صفعتني كلماتها وذكرتني بأنني منذ مدة لم أستطع الكتابة، كنت غارقة في دوامة الأحداث اليومية المتعبة حتى كاد حلمي أن يغادر أنا الأخرى، ولا يمكنني أن أنكر بأنني شعرت حينها بأنه بمثابة تحدّ شخصيّ، وبأن عليّ استعادة ذلك الطير الذي غادر بلادي حاملاً معه القدرة على الحلم ومستقبل الوطن.
لا يمكنني تذكر كم كتاب قرأت في علم النفس كي أتعلم كيف أتماسك، وكيف أحافظ على قوتي وصلابتي، لأجل أن أستعيد قدرتي على مساعدة الآخرين دون أن أفقد قدرتي على الكتابة، لا أنكر أنني مررت بلحظات إحباط وضعف، كنت أبوح بها لصديقة، ويوماً ما أخبرتها كم أنني أشتاق للكتابة على شاطئ البحر، قالت لي بإمكانك أن تشاهدي فيديو للبحر وتستخدمي خيالك، وكانت أنفاسي تضيق أكثر فأجد مكاني الآمن في المكتبة الصغيرة التي طالما فتحنا أبوابها للناس كي تخفف عنهم بعضا من معاناتهم، وكانت المكتبة مكاني الآمن الذي أخاطب من خلاله مفكري العالم وعلمائه دون أن أخشى الدبابة أو القناص.
كرست وقتي وجهدي كي أتعلم كل شيء يمكن أن يخفف من بؤس الواقع، وخاطرت كثيراً في أيام القصف كي أصل إلى الملاجئ التي تعج بالخوف والإحباط، كان عليّ أن أتجاوز مخاوفي أيضاً وأخاطب الناس بأنه وقت عصيب وسيمضي، لنحاول معاً أن نتكاتف لعلنا ننجح في الوصول إلى وطن حر آمن مستقر، كانت مهمتي مطاردة الخوف ونشر الطمأنينة بين النساء لأنني أدري أن المرأة المطمئنة يمكن أن تنشر السكينة في مدينة بأسرها، وبأن الطفل المطمئن هو المستقبل الأفضل لبلاده، وكان لزاماً علي إعداد فريق مدرّب ليواجه هذا النوع من المصاعب، كنا نتعلم معاً رغم قصف الطيران، نفتح الشاشات وخط الإنترنت بصعوبة، ونتعلم عن أمور كثيرة، كيف ندعم الآخرين نفسياً، وكيف نخاطب الأطفال، وكيف نؤسس مدرسة أو رياض أطفال، من خلال التعلم عن بعد، ولا نلبث نطبق ماتعلمناه على الصغار، فكانت مكاسبنا الكبيرة ابتساماتهم، ولكن ظلت مهمة الكتابة للمجتمع الأوسع مسؤوليتي الصعبة، كان عسيراً جداً إخبار المجتمع والعالم أننا قد نموت، لكننا لا نشعر بالندم لأننا اِنحزنا للثورة.
كثيراً ما علقت لساعات طويلة ضمن أبراج سكنية لم أستطع المغادرة حتى تنتهي طلعات الطيران، كنا نعدها، واحدة، اثنتان، … أحد عشر، اثنتا عشر ولعلها الأخيرة، حالة صمت وترقب، ثم الركض بجنون نحو أقرب ملجأ، وكأننا نهرب من الموت إلى الموت عبر خيط رفيع من الحياة، ذات مساء باغتتني قذائف الهاون أثناء عودتي إلى المنزل، كان القصف جنونياً والعودة إلى البيت مستحيلة، لم أتوقع أنني سأنجو فقد قُتل الرجل الذي كانت تفصلني عنه مسافة ثلاثة أمتار، كان عليّ أن أهرب لكن الإصابة منعتني من الحركة، ظننت أنها النهاية، لكنها لم تكن كذلك رغم الكسور والجروح نجوت، تدربت على الكتابة بيدي اليسرى لأن اليمنى كانت تعاني الكسر، وتابعت بشغف، وأدركت أن هناك بقية حياة لابد أن أستغلها أكثر.
نهضت مجدداً وأسست ومن معي في قلب الحصار مدرسة خاصة لأخبرهم أن المدارس التي قصفت لن تقنعنا أن نوقف التعليم، بل سنتابع، في الملاجئ، وبشعلة نور طفيف كنا نتعلم، ونقرأ، ونبذل ما بوسعنا كي نبتسم، و نخفي قلقنا من المستقبل الذي يتهدد حياتنا جميعاً فقد نختفي في غمضة عين دون أن نحقق ما خرجنا لأجله.
عندما أعلنوا قرار التهجير وددت حمل مدينتي معي، جدرانها، أبوابها، مقابر الشهداء، ساعتها الشهيرة وقلعتها، بيوتها العتيقة، وشتلات الياسمين، مآذنها الأثرية ووجوه أهلها وعجائزها، ولكنني عجزت، شعرت أنها النهاية، نهاية رحلة الكفاح ولكن نظرة فيعينيّ طفل واحد، كفيلة بأن تجدد في داخلي القوة لأتابع، فاحتفظت بها جميعاً في رواياتي التي قررت أن أحفظ داخلها تلك اللحظةالتاريخية.
في باصات التهجير الخضراء، حملت بعض الكتب في صناديق صغيرة إلى حيث غادرت، مسحت الغبار عن الأرفف التي لم تعرف مذاق الكتب من قبل، افتتحت المكتبة العامة مجدداً هنا في الشمال السوري، فلم أطق فكرة مغادرة سورية، حاولت ومن معي أن نحاصر الجهل والخوف بتكاتفنا وإرادتنا، وإيماننا العميق، افتتحنا مجدداً أبواب مدرسة خاصة تحمل ذات الاسم القديم، هل كانت مصادفة أن اختار فريقي اسم مدرسة القلم، ليؤكدوا لي أنه أداة التغيير، وبأنني يجب أن أكتب مجدداً لكل من ناضلوا وبذلوا التضحيات، وأن أغتنم هذه اللحظة المصيرية لأخبر كل إنسان على وجه الأرض أن الأمر يستحق، مهما كانت الظروف سيئة، ومهما بدت الطرق مسدودة، هناك الأمل، سرب طير مهما ابتعد فإنه يعود متوجاً بالحلم والحياة، ومن أجل ذلك تابعت الكتابة لأخبر كل العالم أن الإنسان يبقى حراً إن هو قرر ذلك، لا علاقة للأمر بالظروف أو المكان، الحرية فكرة، ترتبط بالعقل والوجدان، وبأن الحلم سيظل يحاصر كلمن أحكموا القيد على المعتقلين، وعلى الشعب، على الوطن كله، سيفك يوماً، وسأظل أحلم أن أتوج تلك اللحظة بكتابات حرة حتى نعود، ويعود الحق لأصحابه، وحتى نتمكن أن نفك القيود، وأن نضع على قبور الشهداء زهرة، سأظل أكتب.
Comments