top of page

النساء السوريات هل هن متلقيات أم فاعلات؟




خولة دنيا : كاتبة وناشطة نسوية سورية.



من أين نبدأ؟

هو السؤال المطروح علينا بعد اثني عشر عاماً ونيف على انبثاق الثورة السورية من صقيع جمّد الحياة السياسية والمدنية والحقوقية للسوريات والسوريين، نحن السوريات والسوريين الغائبات/ين عن أدنى مقومات الحياة السياسية بمفهومها المعاصر، فلقد ابتلعت سنوات الديكتاتورية حتى قدرتنا على التفكير بحقوقنا، فكيف عن واجباتنا!!

امتدت العطالة وكرست واقعاً اجتماعياً وأسرياً وقانونياً، كان من الممكن أن يتطور على صعيد حقوق النساء كنساء، وحقوقهن كمواطنات، فالمرأة السورية التي شاركت في الحياة السياسية وفي تقرير مصير بلدها حتى الاستقلال والتي كانت من أوائل نساء العالم في الحصول على حقها في الانتخاب ومن ثم في الترشح في بدايات خمسينيات القرن الماضي، شهدت انتكاسة مع صعود الديكتاتورية التي أغلقت المجال العالم منذ بداية الستينات، وحصرت المجال العام في مؤسسات شبه رسمية تابعة للحكومة، و تقلصت المنظمات والمبادرات التي كانت أرضية المجتمع المدني، وحتى طالت المجتمع الأهلي الذي أصبح شكاكاً ومتراجعاً في نظرته للمرأة ودورها وأهمية وجودها.


صحيح أن التعليم المدعوم أتاح الفرصة لنسبة كبيرة من النساء ليكن فاعلات ومنتجات، لكن هذا لم ينعكس على الصعيد القانوني الذي بقي مميزاً تجاههن خصوصاً في قوانين الأحوال الشخصية والعقوبات والعمل، كما لم ينعكس على وجودهن في مواقع صنع القرار سواء في الإدارات التنفيذية أو التشريعية، وبقي وجودهن شبه صوري فيها محافظاً على نسبة مرسومة ومكرسة مسبقاً لا فاعلية لها، مثلها مثل المؤسسات التي كنَّ داخلها والتي أفقدتها السيطرة الحكومية والأمنية فاعليتها ودورها وعطلتها بشكل كامل وألحقتها بمركز صنع قرار واحد ممثل برئاسة الجمهورية التي احتكرت القرار التشريعي والتنفيذي والدستوري.


امتد هذا الواقع إلى الحياة الاجتماعية والأسرية، فالمرأة ليست صاحبة قرار كذلك، و تعاني من تخترق الموروث الثقافي من وصمة اجتماعية، فنجد المرأة تعمل دون مقابل في الأعمال الأسرية سواء الزراعية أو الصناعية، والمرأة تضع دخلها في المنزل دون أن يكون لها شيء مسجل باسمها، والمرأة التي تطالب بإرثها من عائلتها تصبح (عايبة) وتعاني من الوصمة الاجتماعية والاستنكار، وليس هناك أسهل من قتل النساء باسم شرف العائلة في حال تجرأت على أن يكون لها خيار اختيار شريك حياتها...


في ظل هذه الصورة جاءت الثورة، لتكون المرأة جزءاً منها، ليس فقط بدور المساند وإنما الفاعل، بدأت تعي مرارة تجربتها وما تعيشه كامرأة و كمواطنة، وبدأت تعرف أكثر عن حقوقها وما خسرته، فكانت مشاركتها تعنيها بشكل شخصي وتضحياتها تقدمها بحثاً عن مستقبل أفضل لها ولاسرتها و لبلدها. وهو ما يعني الانتماء لمجتمع أوسع تتشاركه النساء و قضاياهن.


من هنا يظهر مفهوم العدالة المرتبط بالنوع الاجتماعي:

فالعدالة التي يتم تعريفها على أنها الحقوق والاستحقاقات المتساوية للمواطنين والتي تضمن فرصا ومخرجات سياسية واجتماعية واقتصادية منصفة، تعني ضمناً ضمان عدم التفاوت بين المجموعات السكانية وضمن المجموعة بحد ذاتها.

وللأسف فبعد هذه السنوات الاثني عشر من الصراع نجد تراجعاً في كل أشكال العدالة للسوريين والسوريات، يرافقه فقدان الأمل بمجيء يوم تتحقق فيه هذه العدالة وتتم المحاسبة وفق القوانين الدولية ووفق الاستحقاقات التي يتطلبها الضحايا.


ويمكن أن نلاحظ أن طول أمد النزاع قد أوجد أنواعاً من الظلم منها:

ظلم ذو أثر رجعي يتجلى في تدهور ما تراكم من الثروة الحضارية المادية واللامادية وتدميرها. وهو ما انعكس على النساء بشكل خاص، حيث تدهور وضعهن بسبب غياب التعليم، والاستغلال الاجتماعي والاقتصادي والجنسي.


الثاني هو الظلم الحالي، الذي يمثل إنتاج الظلم الآن، ومن أبرز مظاهره تحويل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنتجة إلى أنشطة مدمرة (اقتصاديات النزاع والاستقطاب الاجتماعي والتدهور الثقافي) وفيما يتعلق بالنساء، لقد ظهرت أنواع جديدة من العنف الممارس تجاه النساء والفتيات، لعل أهمها العنف الجنسي الذي رافق اعتبار المرأة غنائم حرب، وأداة لكسر إرادة الخصم، وإعلان الانتصار عليه. بالإضافة إلى الاعتقال والاختطاف والقتل والاتجار، وكذلك كل الأثار الأخرى المتعلقة بالنزوح واللجوء وما تتركه من آثار لا يمكن التخلص منها بسهولة سواء جسدية أو نفسية، واستغلال جسدي ومادي ومتاجرة مقابل لقمة العيش.

رافق ذلك زيادة كبيرة في العنف الأسري الذي كان معروفاً سابقاً لكن برز بشكل واسع ورافقه تزويج الطفلات وغياب الخدمات الصحية والتميز في التعليم بين الذكور والإناث، وعنف ذكور العائلة خصوصاً مع انتشار السلاح وغياب القانون وغياب جهات يمكن للنساء اللجوء إليها.


الثالث هو الظلم المستقبلي حيث تضفي قوى التسلط الطابع المؤسسي على البنى والعلاقات والاقتصادات المتمركزة على النزاع، و تبسط هيمنتها وسيطرتها مما يعيق ولسنوات طويلة قادمة الخروج من دوامة العنف والاستغلال ويتم تكريس هذا العنف مؤسساتياً وقانونياً مما يجعل النساء يناضلن من أجل أبسط الحقوق التي كانت بمتناول أيديهن قبل سنوات قليلة مضت.

في ضوء ما سبق كيف يبدو الواقع السوري اليوم وما هو الأثر على النساء بشكل خاص وعلى سياق العدالة بشكل عام؟

تعرّف الأمم المتحدة العنف الممارس ضد المرأة بأنّه "أيّ فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه، أو يرجّح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة ."

وتعدّ أوجه عدم المساواة بين الجنسين والمعايير المتعلقة بتقبل العنف ضد المرأة سبباً جذرياً لممارسة العنف ضدها. وهو ما يمكن تصنيفه كـ: عنف اقتصادي، قانوني، مجتمعي، معرفي، صحي، أسري، إلكتروني.


وتظهر أشكال اجتماعية محددة من العنف والعنف ضد المتزوجات، والعنف ضد المطلقات والأرامل، والعنف ضد الصغيرات، يرافقها عنف المجتمع المترافق مع ثقافة سائدة وتمييز سلبي، ووصمة مجتمعية. و يكرسه العنف القانوني التمييزي في مواده وأحكامه، مما يحول النساء إلى أدوات منتجة وغير فاعلة في درجة أدنى من الرجل. سواء في الأسرة أو المجتمع أو القانون أو العمل… ومع استمرار بيئة الصراع، وملاحظة أن التأثير يكون أكبر على المدنيين وعلى النساء بشكل خاص، فهن يتحملن نتائج الحرب أكثر من غيرهن، ومع بيئة الإفلات التي من العقاب وانتشار الأسلحة الخفيفة، واستضعاف النساء و تحويلهن لأدوات وجزء من الصراع، تبدو العواقب سيئة جداً عليهن سواء عواقب بدنية ونفسية واجتماعية واقتصادية تطال الضحية نفسها، أو عواقب على أقارب الضحايا (صدمة، إحساس بالمهانة والعجز)أو على المجتمعات المحلية (إشاعة خوف وفزع، تدمير النسيج الاجتماعي)، مما يجعل من المحتم والضروري اعتبار الجرائم ضد النساء جريمة حرب حسب القرار 1325 الصادر عن مجلس الأمن الدولي لعام 2000 وكل ما لحقه من قرارات[1].


النساء ومسار العدالة لسوريا:

لقد تم توثيق ما لا يقل عن 10363 معتقلة عند مختلف الأطراف، ومنهن من قتلت تحت التعذيب، بالإضافة تقدير الآلاف من المختفيات قسرياً، كما تتعرض النساء للاختطاف من قبل الأطراف المتنازعة بغية استخدامهن في عمليات مبادلة الأسرى أوالاتجار بهن،ولا يعرف تماما عدد المختفيات قسريًا في سوريا ولكن يقدر عددهن بالآلاف[2]

أما الناجيات فهن يعانين من آثار سواء أسرية أو مجتمعية أو نفسية أو صحية.

يرافق هذا كل الإشكالات القانونية التي خلفها النزاع من القوانين الجائرة الموجودة أصلا و المتعلقة بالأحوال الشخصية وقانون الجنسية وغيرها، ضياع أوراق ثبوتية لهن أو لأولادهن تسوي أوضاعهن القانونية أو أوضاع أطفالهن في حالات الترمل أو الهجر أو الطلاق أو اختفاء الزوج، أو ولادة طفل دون زواج مثبت، ضياع حقوق السكن والملكية.


التمكين إرادة مستمرة لتحقيق العدالة:

جيل من الناشطات النسويات والمدنيات والحقوقيات يعملن بكد وجهد لتطوير إمكانياتهن، ويعانين الأمرين من صعوبات ترافق عملهن كتقييد العمل ومنع السفر،وصعوبة التنقل والاستبعاد والتشهير والحملات ضدهن سواء الكترونياً أو مجتمعياً. رافقه ظهور مجموعة كبيرة من المنظمات الحقوقية والنسوية التي تهدف لتقوية النساء و تمكينهن من أدوارهن سواء برفع الوعي،أو العمل لتغيير الثقافة السائدة أو تأمين الدعم النفسي والمادي للضحايا وتوفير الخدمات التي يمكن اللجوء إليها وطلب المساعدة.

فالتمكين في معناه العام هو إزالة كافة العمليات والاتجاهات والسلوكيات النمطية في المجتمع والمؤسسات التي تنمط النساء والفئات المهمشة و تضعهن في مرتبة أدنى. والهدف منها تقوية النساء في المجتمعات المعاصرة وخاصة في مجالات التنمية والاقتصاد. فالتنمية لا يمكن أن تتم إلا بمشاركة نصف المجتمع – النساء. باعتبارهن فئات مهمشة في سياق يكرس تهميشهن و عزلهن واستغلالهن، والهدف هو أن تحقق المرأة احترام الذات و تتحلى بالثقة بالنفس عن طريق إسهاماتها لمجتمعها.

وهو ضروري بكل سياقاته من أجل إزالة المعوقات التي تمنع النساء من التطور والتواجد في مواقع صنع القرار والمشاركة في تقرير مصيرهن ومصير بلدهن.

فالتمكين عملية مركبة وتتطلب تبني سياسات وإجراءات وهياكل مؤسساتية وقانونية بهدف التغلب على أشكال عدم المساواة وضمان الفرص المتكافئة للأفراد في استخدام موارد المجتمع وتسمح بمشاركة الغالبية في الشأن العام وإدارة البلاد وفي كل مؤسسات صنع القرار ضد هيمنة الأقلية المتنفذة. وهو ما يعني إدماج مفهوم النوع الاجتماعي كأداة للتغيير الاجتماعي، بحيث يستفيد النساء والرجال على قدم المساواة، ويوضع حدّ لعدم التكافؤ، ويحتاج لإدماج تدابير إيجابية مؤقتة كرافعة نحو تحقيق المساواة الفعلية. حتى يتم العمل على تغيير الثقافة السائدة ومنظومة القيم والمعتقدات والعادات التي تؤثر على سلوكيات الناس وطرق تفكيرهم تجاه المرأة.

لا يمكن العمل على التمكين بدون توفير تدابير حمائية للمرأة في بيئة العمل والتعليم، وإيجاد آليات يمكن اللجوء إليها في حال الشكوى وتقديم البلاغات. كما لا يمكن أن يكون التمكين كافياً في حال التوجه للنساء فقط فيجب العمل على كافة الشرائح في المجتمع وتحديداً مع المؤسسات والأحزاب بغية زيادة مشاركة النساء فيها.


في النهاية:

استحقاقات شتى تواجه السوريات والسوريين، ولا يزال الطريق طويلاً أمامنا لبلد كنا وما نزال نحلم به بلداً تسوده العدالة والمساواة ويشارك جميع أبنائه وبناته في بنائه والتمتع بخيراته.


اليوم نحن بأشد الحاجة للجميع، نساء ورجالاً بكل الخبرات المتراكمة، وبكل الآلام والتضحيات التي عانيناها، كي نعمل سوية على ردم هوة الماضي بتحقيق العدالة للضحايا، ومحاسبة المجرمين والفاسدين و المستفيدين والمنتفعين من الحرب،هذا الدمار الكبير والمعيق لا يمكن أن يتم محيه دوننا جميعاً ودون مشاركة المرأة بشكل خاص،وفي كافة مستويات صنع القرار وعلى جميع الطاولات المعنية بسورية وما حصل فيها وما هو مستقبلها.

هي الإرادة الجماعية لتجاوز الماضي والانطلاق إلى المستقبل، ما نصبو إليه وما يجب أن نعمل من أجله.

[1] قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1325، المعتمد في 31 أكتوبر 2000، بشأن المرأة والسلام والأمن. ومن خلال التأكيد على أهمية حماية المرأة، يهدف القرار إلى اتخاذ التدابير اللازمة فيما يتعلق بمشاركة المرأة في عمليات صنع القرار وعمليات السلام، ودمج المنظور الجنساني في التدريب وفي جميع أنظمة إعداد التقارير التابعة للأمم المتحدة وآليات تنفيذ البرامج. https://www.un.org/en/genocideprevention [2] (المصدر:الشبكة السورية لحقوق الإنسان).


خولة دنيا : كاتبة وناشطة نسوية سورية.


٨٤ مشاهدة

Comments


bottom of page