نعمة العلواني، صحفيّة و ناشطة سوريّة.
الساعة 6:27 صباحاً، أسمع زقزقة العصافير التي استيقظت لتوّها، أقفُ أنا وعدة أشخاص بانتظار الأبواب أن تُفتح بكل لطفٍ، يناولني الحارس رقم اثنان لحضور جلسة الاستماع الأولى في الساعة العاشرة وهي جلسة المرافعة ضد النظام السوري، هنا في محكمة العدل الدولية بتاريخ 10-10-2023 في لاهاي Den Haag أمام الدعوة التي رفعتها هولندا وكندا حيث طالبت هاتين الدولتين النظام السوري في بيان للمحكمة قبل عدة أشهر باتخاذ تدابير مؤقتة بشكل عاجل جرّاء خطر الاستمرار بالتعذيب في سجون بشار الأسد.
ومن بينها اتخاذ النظام تدابير لوقف أعمال التعذيب القاسية وغير الإنسانية بشكل فعال وفوري، بالإضافة إلى عدم إتلاف أي دليل متعلق بالقضية الأساسية للمعتقل أو منع الوصول إليه، كما يجب على النظام السوري الكشف عن مواقع مثوى الأشخاص الذي قضوا بسبب التعذيب وإطلاق سراح الأشخاص المحتجزين بشكل تعسفي أو غير قانوني في السجون، حيث يجب إنهاء جميع أشكال الاحتجاز المنعزل عن العالم الخارجي والسماح للمراقبين المستقلين والعاملين الطبيين بالوصول إلى مواقع الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية.
لم تخلو الساحة المقابلة للمحكمة من السوريين، حيث بدأوا بالتوافد منذ الساعة السادسة والنصف صباحاً وبدأوا بانتظار دورهم للدخول إلى موعد جلسة الاستماع الأولى.
يدخل الذين تسجلّوا للجلسة 15 شخصاً، بينما يجتمع الآخرون رافعين أعلام الثورة السورية وصور أحبائهم ومعتقليهم في سجون الأسد، يتابعون جميعاً البث المباشر للجلسة، بحيث ركزت الجلسة على طلب من هولندا وكندا بفرض أوامر على نظام الأسد بوقف التعذيب في سجونه، كما تتهم النظام السوري بانتهاك اتفاقية تعذيب المعتقلين وسجناء الرأي، حيث قالت السيدة كروكيت الممثلة عن كندا أنه "لا شكّ بإن انتهاكات النظام السوري المستمرة والمتكررة تتسبب في ضرر غير قابل للإصلاح، ويجب على المحكمة التدخل العاجل".
رؤية هذا المشهد بأكمله جعلني أفكر مليًّا بكل ما حصل، منذ بداية الثورة السورية عام 2011 حتى هذه اللحظة.
عندما بدأت المظاهرات في سوريا، لم يكن لأحدٍ أن يتخيّل أن نصل إلى هنا، الآلاف من معتقلي ومعتقلات الرأي والمختفين قسرياً، كنا نطالب بالتغيير، والتعبير عن رأينا كسوريين وسوريات دونما خوف، وكمعتقلة سابقة لدى النظام السوري، أذكرُ كثيراً شعوري وراء القضبان، كان الخذلان هو المسيطر، وكأنّ العالم بأسره تركني لوحدي أنا وصديقاتي في الزنزانة.
بزحمة الأفكار التي عشتها، رأيت لولا الأغا، صديقتي التي لم تفوّت فرصة الحضور أمام المحكمة، حتى برغم المسافات الطويلة من فرنسا إلى لاهاي. لولا المعتقلة سابقة، والأم والثائرة من مدينة حلب.
بعد السلام والقبلات على الخدين، بدأنا حديثنا عن مشاعرنا كوننا نتشارك تجربة الاعتقال.. "أذكر كيف تم اعتقالي من المظاهرة، ومكثت في السجن لمدة ثلاث سنوات..اليوم بالنسبة لنا هو حدث مهم، خاصة أننا ما زلنا نملك أصدقاء وأحباب داخل قضبان السجون، وبعضهم كنّا قد فقدناهم في المعتقلات.." بصوت مرتجف تكمل لولا " لم أتوقع أن أكون حاضرة اليوم، أنا حرة وملفات جرائم الأسد الآن على طاولة المحكمة.. على الرغم من بصيص الأمل الضئيل، إلا أننا مؤمنات بتحقيق العدالة..
دائماً ما يتمّلكُ الناجون شعوراً بالذنب جرّاء النجاة من كارثة ما، تسمى هذه العقدة (عقدة الناجي) والتي من خلالها يشعر معظم الذين عايشوا تجربة الاعتقال ثم تركوا وراءهم أشخاص شاركوهم رحلة عذابهم داخل أفرع الأمن بالذنب جراء نجاتهم.
تروي روان السمّان وهي باحثة في الشبكة السورية لحقوق الإنسان بعد أن تردد خبر عدم تواجد ممثل عن النظام السوري في جلسة المرافعة والتي شكّلت صدمة لبعض المتواجدين أمام محكمة العدل الدولية: "من المتوقع جيداً أن النظام السوري هذا التصرّف، هذا النظام الذي عذّب وقتل وشرّد السوريين والسوريات وخرق كل المعاهدات الإنسانية، لكن هذا لا يقلل من إجراءات المحكمة أو من أهمية القضايا المرفوعة ضده. دورنا وهدفنا سيبقى الدفاع عن قضية المعتقلين والمغيبين، والتذكير بسردية الناجيين والناجيات حتى لا يغيّب النظام السوري روايتهم.."
تكفكف روان دموعها وتكمل: " بعملنا في الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثّقنا 96 ألف مختف قسريا، ضمن 135 ألف معتقل. هؤلاء ليسوا مجرد أرقام، هؤلاء أصدقاؤنا أحبابنا، عوائلنا ومن حقنا أن نطالب بالإفراج عنهم والإفصاح عن مصيرهم…"
تتزامن جلسة هذه المحكمة بتاريخ 10 أكتوبر 2023 مع القصف الممنهج على إدلب، يقول بعض السوريين أن النظام لم يكن لديه الوقت الكافي لحضور الجلسة أو حتى إرسال محامين نيابة عنه لأنه مشغول بقتل المدنيين في سوريا، تعذيب المعتقلين داخل أفرعه.
حانت الساعة الثانية عشر ضهراً، كانت مجموعة تتألف من 15 شخصاُ تستعد لجلسة الرد على المرافعة -الجلسة الثانية بتاريخ 10 أكتوبر 2023-، بخروج المجموعة الأولى التي حملت لنا خبراً أن الجلسات التالية أُلغيت، حيث أرسل النظام السوري رسالة عبر سفارته أنه يعتذر عن حضور هذه الجلسة وحتى الجلسات المقبلة في اليوم التالي، وبحسب ما ورد عن رئيس الفريق القانوني الكندي، آلان كيسيل، إن قرار سورية بعدم المشاركة في إجراءات اليوم لا يحميها من توجيهات المحكمة"..
هذا الأمر الذي سبب الإحباط للبعض، لكنه لم يثني ياسمين مشعان التي كانت تحمل صور أخوتها الخمسة (زهير 19 سنة والذي استشهد أثناء تظاهره، عقبة 36 أب لطفلتين والذي أعتقل لرفض أهله الاعتراف أن عناصر المسلحين هي من قتلت زهير شقيقه الأصغر، وبعدها بعدة سنوات، تعرفت عائلة ياسمين عليه من خلال صور قيصر. عبيدة، والذي استشهد أثناء إسعافه للجرحى، تشرين والذي استشهد برصاص قناص تابع للنظام السوري، أما أصغرهم فكان بشار الذي قُتل على يد تنظيم داعش.
" لم تكن هنالك تغطية إعلامية كافية اليوم..بالإضافة لشعور بالخيبة وكأننا غير مهمون للعالم وكأن حقوق الإنسان لم تخلق لنا كسوريين.." تقول لي ياسمين هذه الكلمات وصوتها يشي بالحزن، حيث كانت تعّول بشكل كبير على جلسات اليوم في محكمة العدل الدولية.
جلستُ لمدة 20 دقيقة أحاول تهدئة قلبي وأنفاسي، حيث وبرغم تعرضي الكبير للأحداث إلا أن عقلي لم يعد يميّز المكان، فأنا أسمع هتافات الساروت على مكبرات الصوت. صوته الذي رافق مظاهراتنا في حمص، في أزقة حارتي القصور، وصورته المرافقة لبدايات الثورة. واليوم على بعد عشر سنوات بالضبط، من هذا التاريخ في شهر أكتوبر، كانت الذكرى العاشرة لاعتقالي، والذي مكثتُ على أثره 8 أشهر متنقلة في عدة أفرع وزنزانات.
وبعد دمعات كفكفتها بخجلٍ من هيبة اللحظة، عدتُ لأهتفَ مع المتظاهرين أمام مبنى المحكمة، حاملةً دعواتي وأمنياتي كما كل السوريين هنا، لتنفيذ أقصى العقوبات ضد نظام الأسد، وكل من شارك بالتعذيب في سوريا والوصول للحقيقة والعدالة والحرية التي طالما حلم السوريين بها.
نعمة العلواني، صحفيّة و ناشطة سوريّة.
Comments