قد يبدو هذا السؤال عاديا للكثيرين، ولكنه أصعب سؤال واجهني طوال حياتي.
هبة سويد.
ولدت في مدينة تقع على أطراف العاصمة دمشق في سوريا. وعندما دخلت إلى المدرسة الابتدائية لاحظ العديد من الأطفال أن لهجتي مختلفة قليلا عنهم وكلما سألني أحدهم من أين أنت؟ تجسدت تلك اللوحة المعلقة في بيت جدي أمام عيني وتعثرت الكلمات في حلقي، كيف أشرح لهم أن أصلي يعود إلى تلك اللوحة المطبوعة في ذاكرتي ومعها الكثير من الحكايات التي سمعتها من جدتي ومن جدي ومن زائريهم؟ كيف أختصر كل ما تجمع في ذاكرتي من قصص سمعتها ودموع رأيتها في عيني جدتي؟ هل أكتفي بقول: "أنا من صفد"، المدينة الفلسطينية التي لم أرَ منها سوى صورة رمادية هامدة معلقة على الحائط؟ ولكن صديقاتي لم يكن يعرفن ما هي صفد وكن يسألنني: "ولماذا لا تعيشون هناك؟" وعندها كانت الكلمات تعود لتتزاحم في حلقي فلا أعرف فلا أعرف ماذا أقول وأتمنى لو أنهم رأوا تلك اللوحة وسمعوا جميع القصص.
كانت جدتي تردد نفس القصص مراراً ومراراً، ليس لأنها تقدمت في السن، ولكن لأن مشاعر الألم والصدمة كانت ما تزال كامنة هناك في أعماقها.
ففي ربيع كل عام مثلا وعندما تتفتح أزهار النرجس وتملأ عربات الباعة الجوالين في دمشق تعود جدتي لتقص لنا حكاية خروجهم من فلسطين في نفس الوقت من السنة، فتبدأ كلامها بوصف النرجس الفلسطيني الذي كان يغطي بقاعاً كثيرة من جبال صفد في الربيع وأزهار الليمون والبرتقال التي كانت تعبق في الحقول. ثم تتنهد وتقول: "ولكننا لم نعد في ذلك العام لنقطف الليمون في الصيف"، لقد سرقوه كما سرقوا بيوتنا وأماننا وحياتنا." وتتابع قائلة: "لم نكن لنخرج لو لم نكن خائفين على حياة صغارنا".
سمعت الكثير عن المدن الفلسطينية التي حصلت فيها مجازر تقشعر لها الأبدان. خرج الجميع بأولادهم تحت القصف. "لم نفكر للحظة إنهم سيمنعوننا من العودة وخاصة أن الجيوش العربية تدخلت" ولكنها كانت نكبة موجعة عصرت قلوبنا عقودا طويلة وشتتت شملنا.
وغالبا ما تتطرق جدتي لذكر الشباب من أسرتنا ومن معارفنا الذين هاجروا إلى بلاد بعيدة وعاشوا بعيدا عن أهلهم. فمع مرور السنوات تعقدت قضية فلسطين وبدأ الجميع يفقدون الأمل من العودة في الزمن القريب فما كان من العديد من الشباب إلا أن بحثوا عن طريقة يلجؤون بها إلى بلد أجنبي سعياً منهم إلى حياة كريمة في دول العالم الأول يعتمدون فيها على أنفسهم بعد أن خسر أهلهم كل ما يملكون وأصبحوا عاجزين عن مساعدتهم، كما قد يمنحهم ذلك البلد بعد بضع سنوات جواز سفر يمكنهم من التحرك بسهولة حول العالم.
طالما سمعت أقاربي يتكلمون عن الصعوبات التي تواجههم إذا أرادوا السفر خارج سوريا حيث أننا لا نحصل على جواز سفر فلسطيني أو سوري وإنما نحصل على وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين المقيمين في سوريا وتلك الوثيقة غير مرغوبة من أي بلد في العالم لأنهم يعلمون أن صاحبها بلا وطن. فلطالما تمنيت أن أزور عمتي التي كانت تعيش مع زوجها في بلد عربي مجاور ولكن الحصول على تأشيرة موافقة كان أمرا شبه مستحيل إذا أنهم كانوا يطلبون من المتقدم إيداع مبلغ مالي ضخم يوازي ثمن شراء منزل طوال فترة السفر.
حرص والداي خلال فترة تعليمي على تشجيعي وإخوتي على تعلم لغة أجنبية إذ أن صوتنا يجب أن يصل إلى جميع أحرار العالم، وقد أثمرت جهودهم وشاء الله أن أتم دراستي في قسم اللغة الإنجليزية في دمشق ثم أسافر مع زوجي إلى بريطانيا.
"سنرجع يوما" هكذا كانت تقول جدتي دائما والإصرار واليقين يبرق في عينيها، وعندما تقدم زوجي لخطبتي وهو شاب سوري همست في أذني: "أعلم يا ابنتي أن معيار الزواج هو الأخلاق والسمعة الحسنة، ولكن أبناءك سيحملون الجنسية السورية ولن يكون لهم حق العودة."
فكرت في كلامها، ولكن قضية فلسطين لا تخص الفلسطينيين وحدهم، بل هي قضية جميع العرب والأحرار في هذا العالم وأبنائهم جميعا سيكونون معنيين بالسعي لتحريرها حتى تحتضننا جميعا يوما ما. وعندما انتقلت للعيش في بريطانيا عاد السؤال يتكرر أمامي،
من أين أنت؟
فأجيب: من فلسطين
وأين هي فلسطين؟
بين سوريا ولبنان والأردن
هل تعنين إسرائيل؟
لا لا أبدا
وتعود لتتزاحم الكلمات في حلقي وأتذكر لوحة بيت جدي التي طبعت في ذاكرتي، صورة جوية لجبال مليئة بالأشجار المعمرة وبيوت حجرية صغيرة تتسلق تلك الجبال وتضاهيها بالصمود والعنفوان. نعم أنا من تلك اللوحة، من تلك المدينة وكنا نعيش في فلسطين بسلام مسلمين ومسيحيين ويهود إلى أن تأسست دولة إسرائيل بعد النكبة وتم طردنا والتضييق على من بقي منا هناك. ثم تتابعت النكبات إلى يومنا هذا ومازال المحتل يحاول التمدد في المنطقة وما زلنا نصرّ على حق العودة.
لم تكن أبدا مجرد لوحة بالنسبة لي، يتهيأ لي أحيانا أنها نافذة في الحائط تطل على مكان حقيقي ينبض بالحياة ويبعث فينا الأمل بالعودة.
ثم جاء ذلك اليوم العسير الذي اضطرت به جدتي إلى مغادرة بيتها مرة ثانيه فلم تعد سوريا المكان الآمن الذي يمكنها أن تأوي إليه إلى حين عودتها إلى بلادها. ذهبت لتعيش مع بيت خالي في بلد عربي آخر، ويا ليتها لم تترك اللوحة، فقد ضربت القذائف والمدافع الأبنية فوقعت اللوحة وتكسر الإطار الجميل وبدأت تغريبة شعب جديد. ليس بسبب غرباء أتوا من أماكن بعيدة هذه المرة ولكن بسبب ظلم طاغية أخافته حشود سلمية حملت الزهور وطالبت بالحرية فلم يترك منهم أحدا وأشبعهم اعتقالا وتقتيلا. واغتيلت الثورة الشعبية فسلحوها وحولوها حربا أهلية.
ولكننا لن نفقد الأمل وسنعود ونعلق لوحات جديدة في بيوتنا، وسوف نحمل معنا صورة فلسطين وسوريا إلى أي مكان نعيش فيه في العالم، وسنعلم أولادنا كيف يحملونها في قلوبهم إلى الأبد.
هبة سويد.
Comments