ريتا محمود، فنانة وناشطة سورية.
أيلول ٢٠٢٤
البوستر من تصميم سلافة حجازي.
ملاحظة: كُتبت هذه المقالة قبل سقوط نظام الأسد وانتصار الثورة وتحرير سوريا.
ازدادت في السنوات الأخيرة مشكلاتي واختلطت فيما بينها؛ تحديداً منذ سبع سنوات، حين وصلت إلى المنفى وحرّم عليّ وطني. تتعقّد مشاكلي يومًا بعد يوم منذ أن أصبحت فيه منفية، تتعدد الأسباب وتبقى الغربة أشدها وقعًاً. أكره كلمة الوطن. أسمع في رأسي كلمات الأسد الأب: “الوطن غالٍ، الوطن عزيز…”
هل كنت سأكون أنا بكل هذا القلق لو بقيت في دمشق؟ أجبرتني صفة "اللاجئة" على مواجهة العديد من المواقف التي لم أضطر إلى التفكير فيها سابقاً. لم أعلم أنني، وفي مكان يبعد أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر عن بيتي، سأضطر لتبرير أصولي. بعد وصولي إلى فرنسا، سُئلت عدة مرات عن موطني الأصلي، وكان جوابي وما يزال: “أنا من الشام.”
اعتقدت دائماً أنّ جوابي كافٍ، وأنّ من يراني بلا حجاب، أحمل سيجارة في يدي وأضحك مع صديقي، ستتكوّن لديه بلا شكّ صورة قريبة عن واقعي. تفاجأت عندما لم يكتفِ السائل: “من وين من الشام؟”
تبًا، ليس لدي جواب! حسنًا، لا داعي للهلع. سأجيبه بمنطقة سكني: “من المهاجرين.”
- لا يكفي… “يعني أصلك من وين؟”
قبل عشر سنوات تقريباً، حين أخبرت والد صديقي بتاريخ عائلتي، شبّهني بشجرة برتقال تحمل نوعًا جديدًا من الفاكهة. قال: “شجرة مطعّمة بنكهات سوريا مجتمعة.” أحببت ذلك التشبيه، فأنا أحب جذوري الأربعة!
عدت إلى الشخص الذي سألني، وشعرت بشيء من الهلع، هل سيتّهمني بالخيانة إن أخبرته أنّ جدي والد أبي علوي من جبلة؟ ربما إن أخبرته أنّ والدي كان معتقلاً، ولو لبضعة أيام، وأنّ عائلته من العائلات المعارضة التي تمّت محاربتها من أيام التصحيح، سيفهم أنّني لست موالية للنظام.
“اسمعني جيدًا، أنا دمشقية. أنا وأهلي وُلدنا في دمشق. أمي والدها من دير الزور ووالدتها شركسية. أما أبي، فوالدته دمشقية من حي القنوات ووالده من جبلة.”
“علوية!…”
“أجل، لكن عائلتي معارضة للنظام.”
أرى علامات الدهشة على وجهه، يحاول وضعي داخل إطار ولا ينجح. لا أشبه "الدمشقيات" في نظره، ولا حتى "علوية الجبل".
هذا الحوار تكرر عشرات المرات، وفي كل مرة يؤلمني بنفس القدر. أرهقتني هويتي التي كنت أعتقد أنني واثقة منها. لم أنكر يومًا أصولي، لكنني أشعر في أعماقي أنني دمشقية، عشت في دمشق واحداً وعشرين عامًا، أحفظ شوارعها، مقاهيها ومكتباتها.
لم يسألني أحد في دمشق عن جذوري، ولم يخطر لي يوماً أنني سأواجه أزمة هوية، وأنّ عليّ أن أشرح للأوروبي أنّني سورية منفتحة، ولست حالة شاذّة في سوريا، فأنا أشبه الكثير من السوريين.
سألت أبي عمّا إذا كان قد عاش إحدى هذه الصراعات. قال إن أصدقاءه يمازحونه عندما يجتمعون في المقهى أسبوعياً للعب الورق، ويسخرون بلطف: “إذا خسر فسيستعين بأحد الضباط للثأر.”
حسنًا، أبي لا يزعجه هذا المزاح: “ما بيقدروا يتجاهلوا أن السلطة علوية.”
أسأله: “هل كنت ستخاف أيضًا لو كان هناك علوي آخر معكم؟”
فيجيب: لا، لن أخاف.
نبحث عن جواب معًا، لماذا أنا وبابا لا نخاف العلوية ولا السّنّة؟ نحن لسنا هذا ولاذاك، هل لهذا لا نخاف؟ لماذا الخوف؟ لماذا يوجد “نحن” و”الآخرون”؟ عداوات وهمية أشعلها خوف خفيّ، ينتقل عبر همسات خافتة، خوفًا من "الجدران التي تسترق السمع" لكل ما نقوله. إنه الخوف الذي أصبح أداة سياسية، مزقت البلد وفرقت صفوف شعبه. الجميع يعتقد أن الآخر “سيذبحه”، وأن المختلف عدو يسعى لمحو من لا يشبهه، وكأن الأرض لا تتسع لنا جميعًا! لكن هذا الفكر لم ينجم عن رواسب اجتماعية قديمة؛ فحتى منتصف القرن الماضي، كان العدو واحدًا، ولم يكن أحد يرى الآخر عدواً. ومع ذلك، أصبحنا جميعًا بيادق في لعبة شطرنج، حيث استخدم نظام الحكم اختلافاتنا ضدّنا، وجعلنا جماعات متفرقة، كلٌ منا عدوٌ للآخر، وكلٌ يخشى الآخر.
متى نتوقف عن الخوف؟عندما نعرف الآخر، عندما نفهمه ونبني جسورًا بدلًا من الحواجز. ربما كان الحظ الذي جعلني أقف في المنتصف، على مسافات متساوية من الجميع، أتأمّلهم وافهمهم وأنتمي إليهم جميعاً في آن معاً.
أعرفهم جميعًا. أعرف جدتي التي روت لي قصص الأنبياء، وجدتي الأخرى التي حدثتني طويلًا عن موسيقى الخمسينات، ورقص الصالونات، وعن الانقلابات العسكرية التي شهدتها العاصمة دمشق. لقد عشت وسط هاتين الهويتين، ووسط أصوات مختلفة أرى كيف تتكامل رغم اختلافها. هل يمكننا حقًا تغيير سردية "الآخر الخائن العدو"؟ ربما… وربما يحدث ذلك فقط عندما نحقق عدالتنا الاجتماعية بأنفسنا، بعيدًا عن الإملاءات السياسية، عندما يراجع المجتمع تاريخه، يتصالح مع ذاته، ويعترف بأزماته وأخطائه وجراحه.
العدالة السياسية نسبية وغير مضمونة، لكننا نبقى مسؤولين عن عدالتنا الذاتية، نحمل مسؤوليتها ومسؤولية مواقفنا من الآخر. وحين ننصف أنفسنا والآخرين، وندرك أن الإقصاء والشك لن يوصلانا إلى برّ الأمان، وأنّ الأمان لا يمكن أن يكون فرديًا؛ إذا كان جاري في أمان، فأنا أيضًا في أمان.
قد تتحقق العدالة الاجتماعية عندما أجد هويتي الضائعة، وأتوقف عن الخوف، وأفهم أنّ الهوية لا تُختزل في اختلافاتنا، بل تكمن في قدرتنا على التعايش وقبول بعضنا البعض.
ربما لا قيمة لكل ما رويت، لكن ما أحاول قوله هو أنني أواجه أزمة هوية وأزمة ثقة. تخنقني المواقف التي لا يُسمح لي فيها بتقديم نفسي، فالآخرون لا يمنحون أنفسهم فرصة للتعرف عليّ، ولا يرون من أنا حقاً، بل مجرّد صورة وهمية عن من أكون، مبنية على تصورات وأحكام مسبقة. أجد نفسي مشغولة بتبرير هويتي ومواقفي، غير قادرة على أن أكون على طبيعتي. أنا لست فتاة مؤطرة. لدي اسم، شخصية، وطباع تستحقّ فرصة الظهور إلى هذا العالم دون خوف. ولكن…
أنا حزينة، وأشعر بالألم حينما يقول لي أحدهم: “يعني أنتِ مانك من الشام”. ما الذي يحدث؟ لماذا لا تزعجني محاولات الأوروبيين في جعلي أوروبية بقدر ما تؤلمني كلمات أبناء "الوطن"؟ هل يخافون مني؟ هل يقبلوني بينهم؟ هل ستتقبلني عائلة الشاب الذي أحببته؟ أنا لا أشعر بالظلم، ولا أظن أنني ظلمت أحداً يوماً، أنا فقط خائفة...
أبحث عن شخص يقبلني كما أنا.لا أنتمي إلى جماعة، وحيدة، منفردة، حُرّمت عليَّ دمشق مرتين: يوم أصبحت لاجئة، ويوم سُئلت من أين أنا.
ريتا محمود، فنانة وناشطة سورية.