top of page

بين ما كان وما أراد الله لي أن أكون



مرام محمد، مترجمة سورية.


أيلول ٢٠٢٤


البوستر من تصميم سلافة حجازي.

ملاحظة: كُتبت هذه المقالة قبل سقوط نظام الأسد وانتصار الثورة وتحرير سوريا.


بدأت الحكاية في ربيع عام 2011 إذ كانت تلك الطفلة ذات الأعوام التسعة والتي تشع فرحاً ونشاطاً تعشق الحيوانات وزراعة النباتات، يطير العصفور ليقف على كتفها، وتسرع القطط لتدور حولها فتطعمها، وتأبى السلحفاة إلا أن تأكل من يديها. وقد عبرت عن كل ما تحبه من خلال الرسم وتشكيل المعجون. أحبّت مدرستها وتفوقت، وكانت تحلم بمستقبل جميل تحياه في مزرعة صغيرة ترعى فيها الحيوانات وتزرع ما تشتهيه من نباتات وزهور، وتحيا بسلام بين عائلتها.


 في أحد الأيام، وأثناء عودتها من المدرسة، رأت رجالاً ونساء مجتمعين في الطرقات يهتفون "حرية حرية، نحن بدنا حرية" شعرت بهتافاتهم وكأنها أغنية جميلة تنسكب في أذنيها فتفتح مداركَها على أمر لم تعرفه من قبل.


"أمي، لقد سمعت الناس اليوم يهتفون هتافات جميلة، فما القصة؟"، سألت الفتاة، فردت الأم: "نعم يا صغيرتي، هذه هتافات الأمل والحرية التي طالما حلمنا بها وسندركها بإذن الله. لكن الطريق قد يكون وعراً وصعباً، فالمستبد لن يتنازل بسهولة".


لم تفهم الفتاة ما كانت تعنيه والدتها تماماً في تلك اللحظة، لكن مع مرور الأيام بدأت تدرك المقصود تدريجيًا. لقد ظنت في البداية أن الطريق الوعرة التي تحدثت عنها والدتها هي مجرد خيال، لتتضح لها الصورة مع تصاعد الأحداث وتعرف أنها طريق فعلية مليئة بالمصاعب. بعد عام تقريبًا، وبين القصف والاعتقالات، اضطرت العائلة، كما هو حال الكثيرين، للنزوح إلى مكان بدا أكثر أمانًا مقارنةً بالفوضى والعنف اللذين أحاطا بهم في مكان إقامتهم الأصلي.


كيف لفتاة بعمر التاسعة أن تستوعب ما رأته في رحلة النزوح الصعبة! ‏لقد حاولت هي وعائلتها الهرب عدة مرات بسيارتهم، لكن القصف الشديد كان يرغمهم على العودة دائماً… ثم نجحوا أخيراً في اجتياز حدود مدينتهم (التل¹). لقد بدا المشهد وكأنهم قشة في بحر هائج من النازحين لا تعرف بدايته من نهايته، لم تكن المسافة بينهم وبين قرية بدّا² التي أرادوا النزوح إليها تستغرق أكثر من ‫ربع ساعة بالسيارة، لكنهم احتاجوا يومها عشر ساعات كاملة لتخطي تلك المسافة القصيرة. ‏كانت وجوه جنود الأسد الذين لطالما ظنت أنهم "حماة الديار" مرعبة، وكانت ألسنتهم تتلفظ بالكلام الفاحش دون اعتبار لمسنّ أو طفل، بدوا ‏وكأنهم من عالم آخر ليس فيه من الإنسانية شيء.


كانت أشد اللحظات إثارة للرعب بالنسبة لها حين وجه أحد الجنود السلاح إلى وجه أخيها الصغير ذي الثلاث سنوات وهو في حضن أمه؛ ساد صمت رهيب حينها، كانت لحظات عصيبة، وفهمت الطفلة بعد ذلك أن الجندي كان "يمازح" أخاها فقط! لمرة أخرى أثبتوا لها أنهم من عالم ليس فيه من الإنسانية شيء.


وأخيراً حل الصباح ووصلوا إلى وجهتهم، قرية بدا الصغيرة الواقعة على بعد بضعة كيلومترات شمال مدينة التل. وبعد بحث طويل وجدوا مكاناً يؤويهم، وقد كان عددهم يقارب ستين شخصاً، وكانوا لا بد محظوظين ليجدوا مكاناً يتسع لهذا العدد من الناس.


كان المكان عبارة عن غرفتين كبيرتين خاليتين من أدنى مقومات العيش، غرفة للنساء والفتيات وأخرى للرجال والصبية، مع حمام صغير تستره قطعة قماش. لقد وافقت فترة نزوحهم بداية شهر رمضان من عام 2012. ورغم امتلاء المكان كانت الطفلة تقضي وقتها في اللعب مع بنات أعمامها وعماتها، ربما هذا ما خفف عنها في تلك الفترة، فقد كانوا معاً طوال الوقت. ولكن الأمر لم يخلُ من الصعوبات؛ فلم يكونوا يستطيعون الاستحمام، ولم يكن هناك ما يكفي من الملابس، وفوق ذلك كله كانت من وقت لآخر تسمع أحاديث الكبار عن الرعب من احتمال أن يقتحم جيش الأسد المنطقة التي نزحوا إليها.


‏مضى عشرون يوماً والحال كذلك. كان الجيش قد استولى على مدينتها وسيطر عليها بعد أن قتل منها من قتل واعتقل من اعتقل. قررت عائلتها³ العودة إلى بيتهم في التل، وعند وصولهم وجدوه مقصوفاً لا يصلح للسكن، كان بحاجة للكثير من الترميم والإصلاح لذلك كان الخيار أن يذهبوا إلى بيت جدها لأمها في منطقة قريبة تدعى "حُرنة". كان والد الطفلة يعمل على إصلاح منزلهم على مراحل، ما مكّنهم من العودة والتعايش مع صعوبة الظرف فيه، حيث لا ماء ولا كهرباء، ‏ولكنهم تخطوا كل ذلك بفضل الله وبالصبر.


‏لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، كان الخوف من الاقتحام والاعتقال وارداً دائماً، لذلك قرر الوالد إرسال العائلة إلى الأردن، لشهر أو اثنين ريثما يعود الهدوء، حسب ما كانوا يتمنون ويتوقعون، ومن ثم يمكنهم العودة إلى أحضان وطنهم، وفعلاً تم اللجوء إلى الأردن في أيار/ مايو ٢٠١٣.


مرت الأيام والشهور والأعوام والفتاة هائمة على وجهها في الغربة تتساءل: ألن نعود يوماً؟ لماذا حدث كل ذلك؟ لماذا لا يرضخ ذلك الوحش لما أراده الشعب؟ لماذا كانت النتيجة لتلك الهتافات الجميلة هي الاعتقال والقتل بتلك الطرق الوحشية؟ لماذا يخرج الناس من بيوتهم وأرضهم بحثاً عن الأمان؟ أليس الوطن هو الأمان؟ ماذا عن حلم تلك الفتاة الصغيرة؟ ألن تستطيع بعد الآن بناءه حجراً حجراً؟


ليأتي الجواب قوياً وصادماً وواضحاً: بأن ما كان قد كان، وأن المهمّ هو ماذا سنفعل الآن، في الحاضر الذي نعيشه. أيقظها  ذلك الجواب من كابوس مزعجٍ طويل رافقها طيلة سنين الغربة، غربة ليست عن الوطن فقط، بل عن الأمان والعائلة المكتملة. لن ينفعها البكاء ولا العيش في الماضي، قلبها ما يزال حياً ينبض، ويذكرها بأن الأوان لم يفت، وطالما قلبها حي فالفرصة في يدها لتحقيق العدالة المنشودة التي استشهد الآلاف سعياً لتحقيقها، وعليها أن تستخدم الفرصة كما أمرنا الله لبناء مستقبل مشرق لأطفال سوريا الذين ولدوا خارجها ولم يعرفوها، لبناء الفرد الذي يعرف معنى الحرية ويستطيع إعادة بناء حضارة البلاد، ويعرف أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن الناس كلهم سواسية، وأنهم قد ولدوا أحراراً وأننا ما زلنا قادرين على السير في هذا الطريق، طريق الحق، نحو النصر.


 ¹ التل: ريف دمشق.

² بدّا: بلدة سورية تقع في ناحية صيدنايا في منطقة التل في محافظة ريف دمشق.

³ والداها وإخوتها.

حرنة: حي من أحياء منطقة التل في ريف دمشق.



مرام محمد، مترجمة سورية.


٨ مشاهدات

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page