top of page

عندما سُلبت مني أوطاني



إيثار قصّاب، طالبة سورية مهتمة بالشأن العام.


أيلول ٢٠٢٤


البوستر من تصميم رسامة الكاريكاتير أماني العلي.

ملاحظة: كُتبت هذه المقالة قبل سقوط نظام الأسد وانتصار الثورة وتحرير سوريا.


في حياة الكثير منا ليلة لا تنسى، وليلتي كانت عندما أشعل الضوء في منزلنا في غير موعده. طُرق الباب ليلاً، كنا نائمين، وابي قائم يصلي. نظر في منظار الباب فلم يرَ سوى السواد، أحسّ بريبة فأخبر أمي أن تتجهّز وفتح الباب. شيء ما دهس قدميّ، فتحت عينيّ ثم أغمضتهما سريعاً وأبقيت على نفْسي أتمثّل النوم. لقد كانوا مسربلين بالسواد من أقدامهم  إلى رؤوسهم، حتى بشرتهم كانت سوداء أو ربما هذا ما تريني إياه  ذاكرتي. 


لعل ذلك يفسر كرهي للّون الأسود الذي لا أستطيع ارتداءه ولا رؤيته كما لا الجلوس في مكان يسوده الظلام. أكره اللون الأسود بداية من السلاح القاتم الذي كان موجهاً نحو رأس أبي لحظة اقتحام رجال الامن بيتنا الصغير، وصولاً إلى أحذيتهم السوداء الكبيرة التي خرجت من منزلنا آخذة معها أبي. نعم، لقد كان ليلاً رغم أن كل شيء كان مضاء. 


أذكر صراخ أخي الصغير ذي الست سنوات صباح ذلك اليوم، وهو يقول لأمي: "ماما أختي عم تكذب، قال أخذوا بابا"، وقبل خروجنا إلى المدرسة سأل أمي: "ماما، بابا إيمت رح يرجع؟". في طريق ذهابي إلى المدرسة كان الطريق يعجّ بسيارات الشبح عن اليمين واليسار. كنت أشعر أنهم يراقبونني وإذا أخطأت فسياخذونني، ولست أعلم أي خطأ هذا الذي يترقبونه ليأخذوا الحياة مني. كنت أعرف من هم، كنت أعرف كل شيء، فقد اعتقلوا جدي لأمي سابقاً في الثمانينيات ولم يعد بعدها. أشعر بالألم في ساقي في الموضع الذي داسته أقدامهم من قبل. مشيت ذلك الطريق الأسود، وتتالت بعده طرق سوداء أخرى مشيتها على مدار أعوام من حياتي حتى الآن.


قدسيتي للعائلة موجودة فيّ منذ صغري. أحب البيت ودفء العائلات، أصوات صخب أفراداها والتجمع على طاولة واحدة. تتكوّن أسرتي من خمسة أفراد: أمي وأبي، أخي وأختي، وأنا الأخت الأكبر بينهم. في العاشرة من عمري (قبل بداية الثورة السورية بفترة قصيرة) اعتقل أبي، ثم بدأت المظاهرات تجتاح المدن السورية واحدة تلو الأخرى، كنت كلما مرت بقربنا مظاهرة أهتف معها، ولكن أهتف بقلبي خشية أن أعرّض أهلي للخطر،  فيكفينا ما فقدناه. مرة غافلت أهلي بحجة شراء بعض الحاجيات والتحقت بإحدى المظاهرات في حيّنا (حي صلاح الدين في مدينة حلب) ثم عدت للبيت عند مرورها قربه، لتنتهي بعدها بصوت رصاص وموت طفلين.


بعد مدة بدأ القصف و تركنا البيت، ثم تركنا البلاد دون أن يكون أبي معنا. كم تمنيت وأنا على الحدود لو أن أبي كان هناك معنا، بالرغم من بشاعة موقف الرحيل، إلا أنه ليس بأبشع ولا أسوأ من جحيم سجونهم، ولذلك لا أملك المقدرة على قراءة أدب السجون أو اقتناء كتاب عنه؛ لدي ذاكرة تحيط بالتفاصيل، لا يمكنني أن أحتمل تخيّل ما يُفعل بأحبتي هناك في السجون. 


الليالي الأصعب بدأت بعد ذلك، في بلاد الغربة؛ لم نكن نملك أي شيء، حتى بيتنا في سوريا قد دُمر. لا أب ولا بيت، كيف يمكن أن تستمر العائلة في العيش؟ كيف يمكن أن تقف على ساقيها مرة أخرى؟ أذكر في ظل كل ما كان يحدث أنني لم أكن بحال جيدة على العموم، ولا أذكر أن أحداً ما كان بحال جيدة. كان سبيل خروجنا من كل ذلك هو حلمي، ولطالما شجعتني أمي على تحقيقه، فمنذ صغري وأنا أرغب في دراسة الطب، وكنت أمتلك القدرة على ذلك. التحقت بالمدرسة مرة أخرى و تخرجت منها بمعدلٍ قريبٍ للمجموع التام، ومن ثم تقدمت لامتحان القبول الجامعي، لكن وبعد عدة محاولات لم يُكتَب لي دُخول كلية الطب.


شعرت حينها أن سفينة نجاتنا غرقت قبل أن تصل إلينا بعد انتظارنا لها لسنوات. لكن لا بأس، فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس، ولطالما علمني والداي أن العلم هو القوة الناعمة وأنه رفعة في الدنيا والآخرة، وعليه دخلت كلية صحية مرتبطة بكلية الطب. لم أكن أرغب في ذلك القسم، ولو كان لي الخيار لاخترت اختصاصاً أدبياً، ولكن لم يُسمح لي لأنه "ما بيطعمي خبز" كما قالوا، كما أنني كنت قد حصلت على منحة دراسية في الكلية الصحية، وأنا لا أملك شيئاً، لا أملك حتى رفاهية الاختيار...


بدأت دراستي الجامعية، وكانت قد بدأت معها العنصرية التركية ضد اللاجئين السوريين بالظهور والتصاعد. تعرضت مراراً وتكراراً لمضايقات من الطلاب ومن بعض الأساتذة، فعدا عن كوني عربية أنا سورية، ومن ليس له قيمة في وطنه لا قيمة له خارج الوطن! فكرت مراراً بترك الجامعة، كنت أختنق من كل ذلك وأنا في مدينة بعيدة عن أهلي، غربة فوق غربة...


لم أستطع أن أترك القسم أو أغيره، كيف أخذل عائلتي وهي التي تنتظرني منذ أعوام؟ كيف أتجاهل صوت أمي الذي يتردد في مسمعي دائماً بألا أعود ويداي فارغتان؟ لكم تمنيت لو أنني في سوريا، لو أن أبي معنا، لما كنت لأحمل مسؤولية عائلتي كلها، لكنت اخترت ما أود أن أدرسه، ولكنت أصبحت ما أريد أن أكون. كل ذلك وفوقه شعوري كلما رأيت أحدهم يحادث أباه أو يتحدث عنه، يأكلون سوية أو حتى يتشاجرون، ويأتيهم بالمفاجآت عند عودته إلى المنزل في نهاية اليوم… لا شيء يضاهي وجود الأب. 


مضت السنوات ووصلت إلى السنة الدراسية الأخيرة لأتفاجأ بأن منحتي الدراسية قد توقفت، وصدر قرار من الجامعة بفرض الأقساط علينا بعد رفعها عشرة أضعاف، بهدف أن يدفع الجميع بالتساوي ولا يُفضّل الطالب السوري على غيره،  و ذلك من أجل تهدئة الموجات العنصرية ضد السوريين، بالرغم من أننا حصلنا على مِنحنا ومقاعدنا الجامعية باستحقاق. لم أكن قادرة على السداد إطلاقاً وتم فصلي من الجامعة.


مرة أخرى وأنا التي ترفض ارتداء اللون الأسود، ما زلت أحاول الخروج من هذه الطرق الموحلة إلى حياة أعيشها في بيت دافئ لنا مع عائلتي كاملة، ولعلها تعود يوماً… كلُّ أوطاني السليبة.



إيثار قصّاب، طالبة سورية مهتمة بالشأن العام.

٢٢ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page