أماني العلي ، رسامة كاريكاتير.
أنا اليوم رسامة كاريكاتير،أعشق عملي ، ولدت في السعودية وعدت مع عائلتي إلى سوريا عام ٢٠٠٠. كان حلمي أن أتعلّم الرسم وأتقنه، لكن أهلي رفضوا. أكثر ما أتذكره عن رفض أهلي لدراستي للفن عبارة والدي: ”بنتي أنا تطلع فنانة؟؟؟ مستحيل!!!“
أعيش الآن في إدلب، لم أخرج منها خلال السنوات الماضية، لا خلال القصف ولا أثناء موجات النزوح. قد تسألون عما أفعل في يومي!!
قبل أن أتزوج كنت أقضي معظم وقتي في الرسم، وقبل تعلم الرسم كنت أقضي الوقت في البحث عن نفسي، كنت أعرف انني أسير في الطريق الصحيح. وحين تعلمت الرسم وعرفت ومارست فن الكاريكاتير، حينها فقط وجدت نفسي. مرت أيام وأسابيع لم أخرج فيها من البيت . لدي غرفتي التي رتبتها بالطريقة التي أحب، لدي جوي الخاص، مرتاحة مع والدتي، سعيدة مع أختي، ولا أواجه أي ي ضغوطات من أي فرد في العائلة، لا حاجة لدي للخروج، أرسم فقط، وهو ما أحب فعله وأكتفي به.
نقطة التحول الأهم في حياتي كانت حين تحولت من أماني معلمة الرسم، إلى أماني رسامة الكاريكاتير.لدي ثقة و إيمان بما أقوم به، وكنت أحتفظ بكل الرسومات وأريها لجميع من حولي. خلال تلك الفترة كنت أملك وأدير روضة للأطفال، أنشأها لي والدي بعد عودتهم من السعودية، لإشغالي عن موضوع الرسم. كنت أعرض رسوماتي على كل من يزورني، وكنت أقابل على رسوماتي بكلام سيء (غير احترافي). كنت أفتخر بما أرسمه وأحس بأهميته “. كان لدي إيمان بالوصول للعالمية وإقامة معارض يوماً ما في أوروبا وأماكن أخرى حول العالم، لكني كنت أجهل الطريقة لقلة خبرتي، إلى أن جاء يوم، زارني فيه أحد الأصدقاء من العاملين في مجال الإعلام والثقافة، وقال لي: يمكنك الوصول، لكن يجب أن تتنازلي، بمعنى أن أكون منفتحة كأنثى على علاقات تمهد أمامي الطريق. قلت له: لن أتنازل وسأصل، سوف ترى! رفضت بغضب فكرة أن أستغل لقاء أن أجد سبيلاً لعرض أعمالي ونشرها. كنت أردد دوماً: متى ينتهي ابتزاز النساء؟
في بداية عام 2016 و قبل دخول عالم الكاريكاتير كان علي تعلم الرسم، زارني في الروضة رسام، رسام بسيط يرسم رسومات على الجدران. سألته أن يعلمني مبادئ الرسم فقال لي: لا أستطيع لوجود جبهة النصرة في المنطقة.لأنه وحسب قوانينهم أي شخص يجلس مع فتاة ليست زوجته أو من محارمه يتم اعتقاله، وذكر لي كيف تمت مداهمة منزله لوجوده مع فتيات رغم وجود زوجته. كان ذلك تحدياً إضافياً وضعته ظروف الأمر الواقع في طريق حلمي.
اقترحت عليه تعليمي في الروضة بعد انتهاء الدوام، على أن أدفع له مبلغ ألف ليرة سورية على الدرس الواحد، كان مبلغ ألف ليرة كبيراً في ذلك الوقت، فوافق وبدأنا في اليوم التالي. بدأنا التعلم سراً، وسألني والدي عن سبب تأخري بالعودة من الروضة، فأجبته أنني أتعلم الرسم، أغضبته صراحتي التي اعتبرها وقاحة حين قلت له: كان يمكن أن أكذب عليك وأقول إنني أتعلم اللغة الإنجليزية. كنت خلال تلك الفترة في مشادات دائمة مع والدي، مرت ثلاثة أشهر لم يكن يكلمني خلالها. لم أكترث حينها لشيء ركزت خلال الأشهر الثلاثة مع معلمي وتعلمت منه الكثير بسرعة، كان أستاذي يثني على تطوري.
أول فرصة لي لنشر رسوماتي كانت عن طريق جريدة محلية اسمها (سوريتنا). كان شرط رئيس التحرير عدم التطرق للسياسة، والاقتصار على الجانب الاجتماعي فقط، حرصاً منه على سلامتي كوني فتاة، وأنني أستطيع من وجهة نظره إيصال المشاكل الاجتماعية، لكن بطبعي العنيد كنت أرسم للمجلة ما يريده من مواضيع اجتماعية، وفي وقت فراغي أرسم ما أريده من موضوعات أخرى.
تعرضت للتنمر على موقع الفيس بوك بسبب كتاباتي الطويلة على الرسومات وبسبب ”رسمي العشوائي“، لكني لم أهتم.
كنت أبحث عن رساميّ الكاريكاتير واراسلهم (عماد حاجو - علي فرزات)
قال لي رسام سوري يوما(وين داخلة.. هي المنطقة للرجال !!) لكني مرة أخرى لم أهتم، وتابعت الرسم.
عام 2020 تقدمت في عملي وأفكاري، أصبحت معروفة وتنبه العاملون في قطاع الإعلام البديل لوجود فتاة ترسم الكاريكاتير، بدأوا بالحديث عني وطلب الكتابة عني، لكن لم أقبل لإحساسي أنني لا أريد أن أحرق جهدي في موجة مقالات تنطفئ بعد وقت قصير.
كنت أواجه التنمر من الكثيرين، و في نفس الوقت كنت أؤمن مستلزمات الرسم، لم أقبل أن أكون أقل من غيري من الرسامين وأن أكتفي بالرسم الورقي، بحثت ووجدت أنهم يستخدمون الرسم الإلكتروني، لم أجد سوى أن أبيع مصاغي الذهبي الذي أهدتني إياه والدتي فبعته واشتريت جهاز كمبيوتر، فرحتي به لم تكن توصف . لكن الكهرباء التي تأتينا في إدلب الآن من تركيا، كانت حينها متوفرة للمستطيع في هيئة "أمبيرات" وبعد أسبوع من شرائي للكمبيوتر احترق بسبب ضعف الكهرباء، احترقت الشاشة، ولم يمكن إصلاحها. لكني لم أستسلم وعاودت شراء جهاز آخر بأقل كلفة، لكنه أعانني على العمل والتعلم.
بعد فترة أرسل لي صديق رسام من ألمانيا ،أن صحفية فرنسية بصحيفة اللوموند تريد الحديث عن أوضاع إدلب التي كانت تتعرض حينها لقصف شديد وتريد شهادة من سكان إدلب. وحين سألتني عن صفتي أجبتها باعتزاز (رسامة كاريكاتير) تفاجأت من وجود رسامة كاريكاتير في أماكن الحرب وكان أول مقال كتب عني في "لوموند" الفرنسية. ثم أجريت مقابلة ثانية مع مجلة فرنسية أخرى.
بعدها أصبت بمرض لفترة طويلة، دخلت المشفى و نتيجة خطأ طبي أصبت باختلاطات، تسمم جسمي وبقيت لمدة ستة أشهر في المشفى. المرض كسرني، خسرت عملي ومصدردخلي، وبعدها أصبحت أفضل وأقوى.
في عام 2023 تم إنتاج فيلم عن تجربتي مع الرسم، نال جائزة مهرجان كان السينمائي ¹.
بعد زواجي وضمن هذه الحياة وما فيها من صعود وهبوط ، كان الفارق بالنسبة لي تغير موقف أهلي، وخاصة والدي: من شخص متعصب رافض لفكرة الرسم نهائياً لشخص فخور بي وبفني، استطعت تغيير أهلي.
لاحقاً حصلت على دعوة للسفر إلى فرنسا لكنني رفضتها، لأن قوتي وتأثيري في إدلب، هناك سأكون رسامة لاجئة وأنا أريد أن أبقى مؤثرة في مكاني. أتعرض هنا للمضايقات بسبب طبيعة المجتمع، تعرضنا للتهديدات أنا وزوجي، لذلك أخفينا الحالة الاجتماعية على مواقع التواصل و خففنا من الخروج سويا، ولم أعد أنشرعن حياتي اليومية رغم نشاطي السابق.
في إدلب أقمت معرضاً واحداً عن طريق إحدى المنظمات، لكني أقمت العديد من المعارض في دول أوروبية: إيطاليا وألمانيا بريطانيا، وقريباً سأقيم معرضاً في كندا. استطعت الوصول لفعاليات مهمة في العالم رغم وجودي في إدلب.
حين أفكر بكل ما جرى خلال السنوات الماضية، وأفكر في شكل العدالة الذي أريده أجد الجواب صعباًجدا نحتاج إلى أشخاص يعملون بلا كلل على التذكير الدائم بالظلم الذي وقع علينا كسوريين وسوريات. العدالة ضرورية لكن لن نحصل عليها بسهولة، ودورنا كأفراد ومؤثرين في هذه الفترة هو توعية الجيل الجديد على ما حدث حتى لا ننسى، نحن من عشنا ومازلنا نعيش الكارثة، بدأنا أحياناً ننسى بعض التفاصيل، لذا يجب علينا التوثيق وجمع الأدلة للحصول على العدالة التي تبدو وفق المعطيات الحالية مستحيلة التحقق. برأيي أول مسار للعدالة في سوريا هو التوثيق وإعادة سرد القصص التي حدثت للجيل الجديد من حولنا، يجب أن تبقى ذاكرتنا نشطة لما تعرضنا له ومررنا به. برأي إن أحد أهم أشكال العدالة في سوريا أن أبقى مكاني في إدلب، للتأكيد على أنني على حق، وأن لا نهاجر جميعنا.
لا أقول إنه من الخطأ أن نهاجر، لكن الصواب أن نعود إلى مسقط رأسنا سوريا، أعرف أنه تنظير لكنني في منزلي ولم أهجّر من بيتي، ولا داعي للهجرة إذا تعرضت لمضايقات في الحدود المقبولة، أتحمل وأبقى مثل غيري، أتكلم وأعمل على إيصال صوتي من مكاني وليس من الخارج عبر الحديث عن بطولات سابقة.
¹ الفيلم بعنوان - أماني خلف الخطوط - مازال يعرض في المهرجانات الدولية
أماني العلي ، رسامة كاريكاتير.