بعد سقوط الأسد.. رحلة ما بين الحلم والواقع
- adalaty
- 29 سبتمبر
- 4 دقيقة قراءة

منى كتوب، نسويّة سورية.
حزيران 2025

لا يعتبر يوم ٨ كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤ يوماً مفصلياً في تاريخ سوريا فحسب، بل هو يوم لن يتكرر في حياة ملايين السوريين والسوريات، يوم لن ننساه ما حيينا، لن يشبهه يوم آخر ولو عشنا دهوراً، يومَ سقط رمز من رموز الظلم والاستبداد. أحيا ذلك اليوم الأمل في قلوبنا، بأنه حقاً "إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر".
أنا التي تملّكني اليأس خلال السنوات الأخيرة من أن أزورَ سوريا يوماً ما، فبذلْتُ جهداً في محاولات -أعتقد أنّها كانت بائسة- للتأقلم مع المجتمع الجديد، ومنحني حصولي على الجنسية الكندية وجواز السفر الكندي شعوراً بالأمان، فقد وجدت وطناً بديلاً، مهما سافرت بعيداً عنه، يرحّب بي كلما هبطت الطائرة في رحلة العودة إليه. وبعد ليلتين فقط من هروب بشار الأسد خارج سوريا - وكنا لم ننم لليالٍ متتالية - وجدْتُ نفسي أستيقظ فجأة بعد أن تمكّنت من النوم لما يقارب ساعة أو أقل، ورعبُ فقدان هويتي السورية (البطاقة الشخصية) يسيطر عليَّ. ولدقائق قليلة كانت كل هواجسي أنْ كيف سأتمكّن من إثبات هويّتي السورية إذا ما زرْتُ سوريا في المستقبل. توجّهت على الفور نحو دُرج يحتوي على جميع أوراقي الرسمية وبحثت عنها حتى وجدتها، وضعتها إلى جانب السرير وعدْتُ إلى النوم، وعندما استيقظْتُ في الصباح وضعْتُها داخل جواز السفر الكندي، وبقيتْ هناك إلى يومنا هذا. وكأنني استعدْتُ في تلك اللحظات شيئاً ثمينًا فقدْتُه لسنوات، استعدْتُ هوية ووطنًا وأمانًا، والأهم أنني استرجعْتُ حقاً بمواطنتي، فاستشعرْتُ بشيء من العدالة.
وبعد غياب دام لأكثر من خمسة عشر عاماً، زرْتُ سوريا. كان علم الثورة السورية مرفوعاً وسط مدينة دمشق، أُغنيتا "ارفع راسك فوق" و"جنة يا وطننا" تعلوان من السيارات والمحالّ التجارية، شبانٌ وشابات يحملون علم الثورة في ساحة الأمويين، مشاهد العناق والدموع بين الأهل والأصدقاء - بعد فراق قسري دام لسنوات- تتكرر في الشوارع والمقاهي، وجرافيتي على حائط في منتصف حي الشعلان رسم فيه الساروت ومي سكاف مع عبارة "سوريا حرة- سوريا للجميع"، كل ذلك شكّل بالنسبة لي أولى مشاهد العدالة بحقّ تضحيات السوريات والسوريين طوال ثلاث عشرة عاماً.
"أم الشهيد... نحن أولادك" هكذا استقبل الآلاف من أهالي حمص أم الساروت تكريماً لها عندما عادت إلى حمص بعد سنوات من التهجير. خطر لي يومها: ما الذي سيعوّض الأمهات عن فقدان أبنائهن؟ أدرك تماماً أن تحقيق العدالة كقيمة عظمى سيأتي منقوصًا لا محال، وأن الوصول للعدالة من جميع جوانبها ضربٌ من الأحلام، فهل هناك حقاً ما يعوض السوريين والسوريات عن هولِ ما عانوه في السنوات السابقة، عن سنوات من الاعتقال، القصف، التهجير، النزوح ، اللجوء، الكيماوي، الحصار، الحرمان من التعليم والفقر... بالإضافة إلى ذلك فإنّ من يقرأ التاريخ يدرك من تجارب الأمم السابقة أن العدالة هي عدالة المنتصر، وهذا واقعُنا اليوم، فلقد جاء تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية ليعلن المحاسبة عن الانتهاكات التي ارتكبها نظام الأسد فقط، لكن ماذا عن مصير رزان زيتونة وسميرة خليل، ومن سيحاسب قتلة رائد الفارس وهبة حاج عارف، وغيرها الكثير من الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتْها الأطرافُ الأخرى.
من جانب آخر ندرك أيضًا أننا يجب أن لا نقف مكتوفي الأيدي، فالتضحيات التي بُذلت طيلة السنوات السابقة تستحقّ كلّ الجهود الممكنة في سبيل الوصول إلى العدالة، وأن غياب المحاسبة لكلّ من ارتكب جرائم ضد الإنسانية يعتبر قنبلة موقوتة تهدّد تحقيق السلم الأهلي، ومبدأ "اذهبوا فأنتم الطلقاء" لن يجرّ البلاد إلا نحو عدالة انتقامية وحرب أهلية، لا سيما في ظل انتشار السلاح المنفلت، وهذا ما تجلّى في أحداث الساحل السوري. كما أنّ منح صكوك العفو والغفران لمجرمي حرب، لا بل وتلميع صورهم، لن يؤدي إلاّ إلى غضبٍ شعبي عارمٍ لن تُحمد عقباه، وهذا ما حدث بعد تصريحات لجنة السلم الأهلي خلال المؤتمر الصحفي حول منح فادي صقر ضمانات أمنيّة؛ فاليوم علينا أن نعي جميعًا أنّ كل خطوة نحو العدالة الانتقالية تُعدّ تمهيداً لبناء سوريا التي نريد ونتمنّى.
ليس لدي أدنى شك في أن الحروب هي أبشع ما صنعه الإنسان على مدى العصور، فهي لا تطال البشر والحجر فحسْب، بل تدمّر القيم والمعاني الإنسانية السامية التي تقوم عليها البشرية، وإعادة إعمار كل ذلك يتطلّب جهودًا جبّارة. ومن وجهة نظري، قبل أن نسعى لإعادة إعمار ما تهدّم من بناء، علينا أن نعيد النظر فيما أفسدتْه هذه الحرب فينا، في دواخلنا وأعماقنا، وفي بنية مجتمعنا، فبناء الإنسان يأتي في المقدمة، وهنا أتذكّر لافتة رفعت في كفرنبل: "العلّة فينا، في الأسد القابع فينا، في داخل كلٍّ منّا…". رحل بشار الأسد، لكن النهج التشبيحي الأسدي باقٍ ولقد سرى في مجتمعنا، وهذا ما تجلّى واضحاً ليس فقط في من بيده السلاح بل حتى عبر منصات التواصل الاجتماعي، ولن نتمكن من التخلص من هذا الفكر إلا بعدالة انتقالية تشمل جميع المنتهكين من كافة الأطراف، وحوار وطني حقيقي جامع يشمل كافة مكونات الشعب السوري، ودستور وقوانين تُطبّق فعليًا على الجميع دون استثناء، لا أن تكون حبرًا على ورق.
في 28 نيسان/أبريل 2025، حين جرتْ الانتخابات الفيدرالية الكندية؛ أخبرْتُ المتطوعين القائمين على تنظيم سير العملية الانتخابية أنّها المرة الأولى التي أشارك فيها في الانتخابات في كندا، كوني حصلت على الجنسية الكندية العام الماضي، لكنّني لم أطلعْهم على حقيقة أنها المرة الأولى التي أشارك فيها في انتخابات حرة نزيهة فعلاً، فشرح السياق السوري سيكون معقداً للغاية؛ كيف سأشرح لهم أنني كنْتُ أشارك في انتخابات أعرف مسبقاً أن نتيجتها 99.97% ولا وجودَ فيها لمنافسين أو منافسات آخرين. كنت أتمنى لو كانت مشاركتي الانتخابية الحقيقية الأولى في وطني الأم سوريا، وأحلم أن أعيشَ هذه التجربة يومًا ما هناك، وأتمنى ألا أؤجّل هذا الحلم مطوّلاً. الكثير منا في السنوات الأخيرة عاش في دول تسودها قيمُ العدالة والمساواة والديمقراطية الفعلية، كنا نتمنى لو اختبرنا هذه القيم في سوريا، وسعَينا على أمل أن يعيشها أولادنا أو أحفادنا مستقبلاً إن لم نعشْها نحن، وعندما سقط النظام شعرْنا أن الحلم لم يعدْ محالاً بأن تصلَ سوريا لما وصلت إليه هذه البلاد، لكن كلّ ما يجري من أحداث خلال الشهور الأخيرة يجعل هذا الأمل يتلاشى ويجعلنا نشعر وكأننا نعود إلى نقطة ما قبل الصفر.
مضت اليوم ثمانية أشهر وسوريا بدون بشار الأسد، ومنذ ذلك الحين، نعيش مشاعر مضطربة، خطوة تمدّنا بالأمل بأننا نتّجه نحو تحقيق ما حلمنا به عندما صدحت حناجر الثوار لأول مرة "حرية... حرية"، ليأتي بعدها قرار أو "تصرّف فردي" على حدّ تفسيرهم ويعيدنا خطوات إلى الوراء. وما بين الأمل واليأس، الأمان والخوف الممزوج بالغضب، نعيش واقعنا الجديد. وندرك أنّ تحقيق الحلم يتطلّب منّا جميعًا الكثير من الوعي والعمل والوقت، وكلّي ثقة بأنّ لدى السوريين والسوريّات الخبرة والإرادة الكافيتين، وكلّ ما نحتاجه اليوم خطوات حقيقيّة جادّة نحو تحقيق سوريا تعدّدية تشاركيّة، وعادلة.
منى كتوب، نسويّة سورية.