عدالة مؤجّلة
- adalaty
- 29 سبتمبر
- 4 دقيقة قراءة

تياما كورديلو، ناشطة سورية.
حزيران 2025

كانت القاعة ممتلئة، لكنها لم تكن صاخبة. كان هناك همس… كثير من الهمس. أصوات تنسج ذكريات. وأعين تفتش في الوجوه عن شبهٍ مفقود. امرأة مسنّة، جسدها النحيل بالكاد يحتمل وزن الذكرى، تمسك صورة قديمة بين يديها المرتعشتين، الصورة مهترئة من كثرة اللمس، الزوايا مطويّة، لكن ملامحه ما تزال واضحة: فتى يبتسم بخجل، عيناه مليئتان بحياة لم تكتمل. همست لجارتها، بصوتٍ بالكاد يُسمع: “البارحة… طبخت يبرق. كانت أكلة ابني المفضلة. وأنا ألفّ الورق، شعرت كأن أصابعه معي، يساعدني مثل ما كان يفعل صغيرًا. كأنه كان يحوم فوق الطنجرة، يتسلل ليسرق قطعة أو اثنتين قبل أن تنضج تمامًا… كان دائمًا يقول لي: ‘أطيب شي هو اللي بيتّاكل بسرقة.’” ضحكتْ بخفّة، ثم رفعت يدها تمسح دمعة: “لم أطبخها منذ أكثر من عشر سنين. في كل مرة فكّرتُ أن أحضرها، كنت أختنق. لكن البارحة… لا أعرف لماذا، شعرت أن الوقت قد حان. كأن روحه واقفة عند باب المطبخ، تراقبني، وتنتظرني لأغرف له صحنًا صغيرًا كما كنت أفعل دائمًا."
زوجة شابة تعتصر بين أصابعها خاتماً باهتاً، تهمس: “بعد يومين… كان عيد زواجنا. كنّا نأخذ الأولاد الى اللاذقية وطرطوس كل سنة، حتى عندما لم نكن نملك ما يكفي من المال. “كان يعشق البحر… يغطس، ويسبح، ويسبح… حتى يختفي. كل مرة كنت أصرخ: أين هو؟ أين اختفى؟ ثم فجأة، أراه يقترب، رأسه يطفو، يضحك، يرفع يده، يلوّح لي من بعيد.” سكتتْ. شردتْ، ثم قالت: “لهذه اللحظة… ما زلت أنتظر. أنتظر أن أراه يعود من البعيد. أن يخرج من الغياب مثلما كان يخرج من البحر، يقترب، يقترب. لكنه هذه المرة… تأخّر كثيرًا. ابتعد كثيرًا.” توقفت عن تحريك الخاتم. ثم همست لنفسها: “فكرت هذا العام أن نذهب بدونه، أنا والأولاد… لكن، كيف؟ البحر لم يعد بحرًا بعده. صار مقبرة زرقاء.”
في الزاوية، فتاة صغيرة، وجهها ساكن بشكل غريب، قالت فجأة: “أنا أشتاقه. أحلم به كل ليلة. انتظره ليحميني من الوحوش، والكوابيس. الحلم هو المكان الوحيد الذي ألتقيه، أنتظر ساعة النوم بفارغ الصبر فقط لأراه." كأن الحديث كان طقسًا جماعيًا للنجاة. كأن البوح يبقي الأحبة أحياء، كأنه حبل نجاة يمتد من القلب إلى من غاب.
ثم عمّ الصمت.
دوى صوت الأبواب الثقيلة الصدئة وهي تفتح من ثم تغلق. دوى الصمت كأنه سقطة جماعية للزمن.
دخل القاضي.
كل من في القاعة وقف. حتى الجدران بدت وكأنها وقفت احترامًا. صوت حذائه ارتطم بالأرض كصفعة. كل شيء سكت. حتى الحزن دخل في وجع الصمت. جلس المتهم، السفّاح، الوحش… أو هكذا يفترض أن يكون. لكنه بدا صغيرًا، ضئيلاً حتى، تذكّرتُ وجوه المجرمين لحظة إلقاء القبض عليهم، هل هؤلاء حقاً هم من شرّدوا وقتلوا وعذّبوا؟ هل كنا حقاً نرتعش خوفاً من هؤلاء؟؟
شريط من صور الضحايا والأدلة يُعرض على الشاشة، ثم بدأ يتحدّث ويروي: هذا الرجل… كان قويّ البنية، ضخمًا، من النوع الذي يظن الناس أنه لا يُكسر. عذّبناه أيّامًا. جلده كان يتشقق من السياط، وكان يتمسّك بالصمت كأنه حبل نجاة. في النهاية، خانه قلبه. ببساطة… توقف.” توقّف هو للحظة، وكأنّه يستحضر المشهد. ثم أشار إلى صورة أخرى، لصبيّ بالكاد تجاوز العشرين: “أما هذا… فكنّا نعلّقه من قدميه، رأسه للأسفل. يوم، يومان، في الثالث لم يعد يصرخ. لم يعد يتحرك أصلًا. الحبل المهترئ الملفوف على كاحليه تمزق من ثقله، وسقط على رأسه. سمعنا صوت ارتطامه على الأرض. لم نتأكد إن كان حيًا، لكننا لم نحمله.” ثم انتقل نظره إلى صورة لفتاة صغيرة الملامح، بعينين خائفتين ومربكتين حتى في الصورة. خفض صوته، وكأنه يتحدث عن شيء خاصّ، لا يجب أن يُقال أمام الجميع: “أذكر تمامًا تلك الشابة. كانت في العشرين من عمرها، دخلت إلينا عذراء. لكنها ماتت أثناء الولادة.
هذا الوجه… أذكره تمامًا إنّه الرقم ¹١٤٠٠٠١ يقول الرقم واحد أربعة صفر صفر صفر واحد كان وسيماً، نظيف الملامح، شيء نادر في القبو الرطب العفن الذي كنّا نحبسه فيه. أثار شيئًا فيّ… لم أفهمْه حينها، ولا حتى الآن. كنت أغار منه… وعليه.” ارتسمت ابتسامةٌ خبيثة خفية على وجهه، ثم قالها دون خجل، بصوت ثابت: أردته منفّرًا لباقي السجّانين… كائنًا محروقًا، مشوهًا، لا يُلمس، لا يُقترب منه .
صوته بدا بعيداً وأخذ يتلاشى في رأسي ولم يبقى سوى أصوات بكاء الأمهات والبنات والعائلات..، بعضهنّ سقط مغشيًا عليه، وبعضهن اكتفين بتكوير أيديهنّ على صدورهن، كأنهن يحتضنَّ شيئًا لم يعد له جسد.
أما أنا، فبقيت كما أنا؛ لا دمعة، لا رجفة، لا صرخة، شعرت وكأنني أتلاشى في أثير الكون الواسع. وبعد انتظار دام لأكثر من عقد، أُعلن الحكم: إعدام.. لم أفرح، لم أصفّق، لم أتنفس حتى. فالحكم لا يعيد المفقودين، لا يطفئ النار في القلب، لا يعيد لنا أعمارًا أُخذت منا غدرًا.
لكنه… هو… سقط.
ركع. أخذ يتوسل: سامحيني يا أمي، سامحوني.. هذا الوحش السفاح، تحوّل بكلمة واحدة، كلمة الحق، إلى حشرة. نظرت إليه كأنني أنظر إلى شيء قذر، رائحة الخوف تسبق أنفاسه، ودموعه تنزلق من وجهه فكيف له أن يتوسل ويخاف وهو لم يعرف يومًا معنى الإنسانية.
كيف لعينيه أن تنهمر بالبكاء ولم تُذرف له دمعة واحدة على آلامنا، كيف له أن يتوسل وقد ارتوى من دمائهم. تراكضت دموعي إلى عينيّ ولكن عندها.. شعرت بيد أمي تغطيني وتقول لي بصوت مكسور متجهةً إلى غرفتها:
"تصبحين على غدٍ أفضل يا صغيرتي."
¹ الرقم “140001” ليس صدفة. في تقارير حقوقية صدرت خلال الأعوام الماضية، وُثّق أن عدد المختفين قسرًا في سوريا بلغ نحو 140,000 إنسان. لكن الحقيقة أوسع وأثقل من الأرقام. الواقع أن هذا العدد لا يشمل الجميع، ولا يعبّر عن مدى الألم المتوارث في مئات آلاف العائلات التي ما زالت تبحث عن أثر، عن اسم، عن قبر. أما الرقم الأخير “1”، فهو ليس النهاية… بل تذكير بأن هذا الرقم ما زال مفتوحًا، ينمو في الظل. من دون عدالة، لا يتوقف العدّ. في القصة، حين نطق الجلاد الرقم “واحد، أربعة، صفر، صفر، صفر، واحد”، لم يكن يحكي عن إنسان، بل عن ملف. ورقة. جسد في قبو. هوية مذبوحة. لدى السجّانين، المعتقل ليس سوى رقم — بلا اسم، بلا ملامح، بلا ماضٍ. وقد خرج من نجا منهم فاقدًا للذاكرة، أو للاسم، أو حتى لفكرة من يكون.
تحوّل كثيرون إلى أرقام حقيقية، تمامًا كما أراد الجلاد.
تياما كورديلو، ناشطة سورية.