top of page

أنا وجسدي وأشياء آخرى



ل.ل. ناشطة نسوية و مدافعة عن حقوق الانسان.


أيلول ٢٠٢٤


البوستر من تصميم سلافة حجازي.

ملاحظة: كُتبت هذه المقالة قبل سقوط نظام الأسد وانتصار الثورة وتحرير سوريا.


منذ الصغر وأنا أجرب حميات وتمارين رياضية وبرامج "صحية". منها ما نجح ومنها ما لم ينجح. لكن مشكلتي لم تكن يوماً مع جسدي، بل مع نظرة المجتمع له: (حجمه، تضاريسه ومنحنياته وحتى عذريته)؛ وكأن جسدي معصية أجاهر بها إذا أنا قرّرت بجرأة الخروج من بين جدران غرفتي الأربعة. لم يخبرني أحد أنه كلما كانت ملامح الأنوثة بادية على جسد الفتاة، كلما وجب امتناعها عن أنشطة المجتمع، ولم تساعدني معرفة تلك القاعدة الصامتة قط، بل أضافت إحساساً غريباً بالذنب إلى كل تصرف تجرأت على القيام به كطفلة، لا كأنثى لديها تضاريس امرأة. حقيقة الأمر هي أن المجتمعات تضع لنا معايير، فإذا تجرأت على تحديها، فنحن نستحق العقاب أو المحاكمة من قبل العامة، وكأن هذا المصير حق. وفقًا لهم، فإن الجسد غير العذري والجسد السمين والجسد المزين بالوشوم هو جسد بلا قيمة! وكأن العذرية ختم تاريخ الإنتاج والانتهاء لصلاحيتي كامرأة! وكأن الرقم على ميزاني هو مقياس لقيمتي كإنسان، أو كأن كمية المساحة التي استخدمها/آخذها في أي مكان عليها ضريبة، ووشومي هي تحدّ لكل معتقدات الجغرافيا العربية قاطبة… جسدي الذي تعايره عيون المجتمع مهما أصابه. 


مرة أخبرت رجلاً عن تجربتي مع التحرش والاغتصاب فنظر إلي ممازحاً وقال:

"ومن سينظر إليك أو يشتهيك؟ هل نظرت في المرآة مؤخراً؟"

رغم ثقتي الواضحة بعين من لا يعرفني، فتح لي ذلك التعليق أبواب التساؤل: هل جسدي هو كل ما يمكنني تقديمه للمجتمع؟


معاناتي مع وزني دمرت طفولتي، والاغتصاب أخذ مني جسدي لسنوات عدة. لم يكن لدي أي حق أو رأي في التصرف به، لم يكن ملكي وكل خلية فيه تتجدد لكن لا تستطيع تبديل ما تم انتهاكه. كنت في عمر السادسة عشر عندما سألني أبي: "هل ما زلت عذراء؟" بعد إخباره بما حصل لي.

هل العذارة بأن أمنح الإذن يا أبي؟ لأنني لم أعطه الإذن، أما إذا كان قصدك بالعذرية الغشاء فلا أعلم يا أبي.


لا يمكنني وصف إحساسي بعد ردة فعل أبي، أعلم أن ردة فعله كانت نتيجة ألمه لأنه لم يستطع حمايتي، وأعلم أنه قلق من نظرة المجتمع لي ولديه تخوفات على مستقبلي، واسامحه مائة مرة لأنه أبي؛ لكنني تذوقت الندم بفم مليء بالدماء لسنوات على يد شخص استغل حبي لأهلي وخوفي من المجتمع وتأثير هذا المجتمع على معيشة أهلي إذا انكشف ما تم التستر عليه.

 

سنوات لا أستطيع استردادها، مغتصبي هددني بكل الوسائل المتوفرة لديه، من مجتمع، قانون، أو أهل.

ونجح لفترة بترويضي. وبعد فترة بدأت أتمرد مجدداً وأحاول التخلص منه. حتى وصل لمرحلة التهديد بحياتي وحياة أمي تحديداً. وكل حين وحين كان مغتصبي يريني سهولة وصوله لأهلي، مرة بالذهاب إلى مستوصف أبي ومرة بتصويره لأمي في أحد المراكز التجارية أثناء مرحلة من مراحل تمردي، مرحلة واحدة من أصل مائة. وعندما رفضت اللقاء به كان يلاحقني بعد المدرسة، لم أسلم منه في أي مكان. لقد ضيق عليّ 17 ألف كيلومتر مربع.


أسئلتي لنفسي قبل النوم كانت كثيرة: 

هل سيصدق اهلي اني كنت أحاول التخلص منه لسنين عدة دون إخبارهم لأنني أردت حمايتهم؟

هل سأكون ضحية لجريمة شرف أخرى تمر على السامعين والقارئين ويتم نسيانها بعد فترة؟

هل سيتم التقدم لأختي وأنا مغتصبة (مستخدمة)؟ 

هل سيتمّ احترام أبي من قبل زملائه بالعمل؟ 

هل ستسلم أمي من كلام الناس بمجالس النميمة؟ 


 تغتصبني نظرات الشفقة والمساءلات التي لا تتفهم، وتحكم:

هل حاربتِ؟ هل ضربتِ؟

هل مزقتِ جلده وجمعتِ حمضه النووي تحت أظافرك؟

وأهمها وأكثرها قسوة: هل قلتِ لا؟


تمالكت نفسي حتى آخر لحظة لي في ذلك البلد،وعندما انتقلت إلى أوربة لم أتوقع أن الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة سيلازمني. ظننت أن العرب محصنون ضد هذه الأمراض النفسية التي ليس لها وجود خارج نطاق كلمة "مجنونة". نوبات الاكتئاب التي تلحقها نوبات الأكل المفرط أو عدم الأكل لأيام، والنوم الطويل بسبب الإرهاق الشديد لقلة التغذية والحركة كلها كانت قنبلة مؤقتة تستعد لقتلي.


أتذكر يوم قررتطلب المساعدة النفسية، بعد شهورمن البكاء والكوابيس واسترجاع الذكريات المكبوتة، نهضت من فراشي وذهبت إلى غرفة أمي وقلت لها: "إما أن أذهب إلى الطبيب النفسي أو أن أقتل نفسي." أمي بقوتها التي لم أستطع استيعابها يوماً قالت لي ببساطة: "إذن اذهبي إلى الطبيب النفسي". لم يتم تبادل أي كلمة أخرى، ذهبت إلى غرفتي وبكيت، ثم اتخدت الخطوات اللازمة.


بعد ثلاث سنوات يمكنني أخيراً القول إن علاقتي مع ما حصل تغيرت تماماً؛ لم أعد ألوم نفسي على خيارات اتخذتها وأنا طفلة، أخيراً بدلت شعور الذنب بالرحمة والاستياء، والعار بالقوة.


لم أعد أنتقد جسدي بنفس القدر كما كنت من قبل؛ بل أشكره كثيراً على ما يستطيع فعله من أجلي. الجميع منحوا أنفسهم الحق في نقد جسدي وإيذائه، لذا منحت نفسي الجرأة على أن أمدحه وأحبه وهذا الجسد الذي تعرض للكثير من الانتقادات هو جسدي أنا.


تم إخباري مراراً وتكراراً من قبل عائلتي: "لن يتزوجك أحد وأنت بهذا المنظر!" وتم تنفيذ العديد من التجارب لجعل حجمي أصغر وأصغر، وكأن ثمني كزوجة له علاقة عكسية مع وزني، كلما قل الرقم، ازداد الثمن. والأعذار التي تستخدم لتبرير هذه الكلمات هو دائماً "الصحة" أو "القلق" على صحة اعضائي التناسلية ومستقبلي. لكن في سنوات عمري السابقة لم أجرب أي "حمية غذائية" بدون جوع مفرط أو فقدان شعر أو نقص فيتامينات. ولم أكن يوماً بصحة جيدة عندما كنت قريبة من النحول، بل وبدأت بملاحظة أن جهازي العصبي ضعف من عدم السماح له بالراحة في أي وقت كنت أذهب للنادي الرياضي. كنت أذهب كل يوم وكنت أحس بالذنب إذا احتجت للراحة.


جسدي السمين لا يمكن أن يموت جوعاً فلماذا أتذمر؟ لكن عندما لجأت إلى الطعام في أزمات التوتر وجدت الراحة، تلك كانت أكثر العلاقات إرباكاً لأن الجميع أخبروني أن الطعام عدوي. لكن الطعام وسيلة، مثل الرياضة والحركة. عندما بدأت اختيار حميات لبناء العضلات، تقوية المفاصل وتعديل الهرمونات المرتبطة بتكيس المبايض الذي أعاني منه تغير مفهومي للتغذية تماماً وبدأ جسمي بالتحسن بطريقة لم أفهمها، كان الرقم على ميزاني لا يتغير بشكل ملحوظ، ولكن قياساتي كانت تختلف، وجهي تغيرت ملامحه وبدأت نواحي الحياة بالتغير بايجابية. حركتي أخف، طاقتي أعلى ونومي أفضل، حتى بشرتي أصفى. لكن أهم شيء تغير هو علاقتي مع الطعام. 


لم أمنع نفسي من شيء مهما كان، كنت أعدل وجباتي الأخرى حتى يكون يومي متوازناً ولكنني لم أخف أو أمتنع عن أي طعام، بل وبدأت تجربة وصفات واستخدام مكونات لم أجرؤ على استخدامها من قبل. أصبح الطعام وسيلتي التي ساعدتني على رؤية نتائج جهدي الحركي. لم أكن يوماً كسولة، أحب الحركة والرياضة واللعب، والآن أحب جسدي الذي يحب الحياة، مما جعلني أبدأ بتزيينه؛ بدأت بوضع الأقراط في أذني ثم حلق في أنفي وكان المجتمع لا يزال يكره طريقة تعبيري عن حب هذا الجسد الذي حاول لسنين أن يجعلني أكرهه، ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت الوشوم.


عندما اخترت أن أزين جسمي بالوشوم بكت أمي، وذكرتني بتديّن أبي، وكيف أنه سيكره  ذلك ، خاصة تحت إشرافها، ولكني كنت دائماً أشعر بالقهر من المتدينين الذين اختاروا أن يفسروا النصوص الدينية كما يرون ويريدون.


المشكلة أنني لم أجد بين لوحي المصحف اي شيء عن الوشم، و ردة فعل الناس على الوشم ، ترجع إلى نظرة المجتمع لا للدين.


لم يكن الدين يوماً سببا لتمردي، ولكن المجتمع يشعل في نفسي رغبة لا أستطيع تبريرها، مما جعلني أبتعد عن الدين واتقرب منه حسب قدرتي على التعامل مع حبي لله وغضبي على  المجتمع . الطريقة الوحيدة التي سمحت لي برؤية جسمي كنوع من اللوحات: فن على فن، فن نحت الجسد بالتغذية والتمرين وتجميل هذا الفن بالرسم والتلوين.


أنا لا أطلب من أحد مشاركتي معصيتي ولكن أتمنى لو لم تكن معصيتي أهم شي في نظرة مجتمعي إلي. ولكن لم يكتف المجتمع بالتدخل بوزني، وطريقة تزييني لجسدي، حتى عمر جسدي كان يهينهم! كيف تجرأت على النضج والوصول لهذا العمر بدون شريك حياة. ولكن لماذا؟ لماذا يكون جسدي لي ثم يصبح للمجتمع، ثم للرجل، ثم للطفل، ثم للزمن! أنا أرفض ذلك.


يسيطر المجتمع علينا من خلال جسد المرأة؛ فلا يُسمح لنا بارتداء أشياء معينة، أو قول أشياء معينة، أو التصرف بطريقة معينة لأن ذلك، حسب معايير المجتمع، يمنح الرجال "الحق" في معاقبتنا وفقاً لذلك. بل ويهين الرجل الذي يسمح لنابأن تكون لنا حرية تعبير أو حرية اختيار. إذا كنت ترتدين لباساً معيناً، من المتوقع أن يلاحقك مغتصب أو متحرش أو حتى يتعرض لك.


ولوم الضحية يتجاوز الحدود بين الجنسين، أي رجل بملامح ناعمة يكون ضحية لهذه المعايير الغريبة وكأن الضحية لها ملامح الأنثى حتى وإن لم تكن أنثى. وحتى عندما نترك مجتمعاتنا وننتقل إلى أوربة، يبدأ الرجال هناك في تَشييء ثقافتنا وحشمتنا. إنهم يتوقون لذلك الجسد "المخفي" لدينا ويحاولون كسر جدراننا الأخلاقية. الطريقة التي ينظر بها الرجال الأجانب إلى أجسادنا المحتشمة بشهوة وفضول مخيف لأبعد الحدود.


التعرض للتحرش كان حصل أكثر عندما كنت أرتدي الحجاب مقارنةً بعد خلعه. ولكن طبعاً لا يمكن التخلص من هذه المشكلة تماماً في أي مجتمع. الانفتاح والتقدم ووجود قوانين سنّت استناداً على الحركات النسوية لا تعني أن الرجال أفضل في مجتمعات الغرب، ولكنها تعني أنهم يتعرضون للمساءلة فالكثير منهم يحاولون عدم "تخريب" حياتهم بالتعرض لامرأة يمكن أن تشتكي أو تتحدث، مما يدعوني للإيمان بأن المشكلة تتخطى حدود الدين والجنس والثقافة، وهي مجرد قضية تتعلق بحرية التعبير عن الخطأ والتحدث به. التعبير عن الظلم هو أول خطوة للعدالة ومفهوم الحياء مفهوم مبجل وغير مفهوم في مجتمعنا لأنه لا يعني السكوت، بل يعني الخجل. واليوم الذي يستطيع بنو الشرق التفريق فيه بين ما يجب الخجل منه وما يجب التحدث عنه هو اليوم الذي سوف نرى فيه تغييراً حقيقياً.



ل.ل. ناشطة نسوية و مدافعة عن حقوق الانسان.

٣ مشاهدات

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page