
نيفين الحوتري: ناشطة في المجتمع المدني.

انتهى يوم العمل، واتفقنا أن نجتمع في اليوم التالي للقيام بجلسة عصف ذهني حول الدورة البرامجية الجديدة لشبكة أخبارنا الإعلامية. تتطلب طبيعة عملي اجتماعات دورية مع زميلاتي لمناقشة خطط عمل مستقبلية مع الأقسام. لا أخفيكم أني أميل سراً لجلسات القسم الإعلامي، لأننا نفكر ببرامج تعكس واقعنا في الشمال السوري وتخرجه من دوائرنا الصغيرة إلى العلن.
- حان الوقت؟
- نعم، تفضلي نحن بانتظارك! قالت زميلتي.
- بسم الله نبدأ "هاتوا لشوف… شو في عندكم أفكار؟؟" بدأتُ الاجتماع بهذه العبارة، وأنا متحمسة لمناقشة أفكار سترى النور في حال اتفقنا عليها.
- ما رأيكم ببودكاست يروي أحداث ما قبل الحدث؟
لم أعد أذكر أي الزميلات اقترحت هذه الفكرة. لا يهم، المهم أنني أتذكر أننا جميعاً تبنينا الفكرة.
طالت الجلسة، تحدّثنا مطولاً، ناقشنا تفاصيل كثيرة على مستوى الفكرة والنص والإخراج والضيوف المتوقعين. انتهى اجتماعنا بولادة بودكاست جديد أسميناه: "الليلة الأخيرة“؛ الليلة الأخيرة قبل النزوح، قبل التهجير القسري، قبل الاعتقال.
اقترحت مُعدة البرنامج عدداً من الأسئلة لطرحها على الضيوف، مثل: التعريف بالنفس، سبب التهجير وتاريخه، تفاصيل آخر ليلة في المنزل والمدينة، أكثر لحظة لم تستطع نسيانها حتى اليوم، أكثر شيء تتمنى لو أمكنك الرجوع لاصطحابه، لماذا لا تستطيع العودة للمنزل؟ صف لنا شعورك في هذه اللحظة…
"أعتقد أن الأسئلة المقترحة كافية ووافية للإحاطة بتفاصيل الليلة الأخيرة وتوثيقها لتكون شاهدة على انتهاك المستبد بحق الشعب"، هكذا قالت. وأردفت: "وأعتقد أن علينا البدء بليلتك الأخيرة."
- "ليلتي أنا؟"
- "نعم، فحصار الغوطة الشرقية وتهجير أهلها بعد سبع سنوات من الصمود ومقاومة الحصار يستحق التوثيق والمشاركة مع العالم، كي لا ننسى وكي لا ينسوا."
توقفت قليلاً عند عبارة "كي لا ننسى“... نعم، لا أريد أن أنسى الظلم، ولدي نية بتدوين كل تفصيل صغير في حياتي، كي لا يغيب عني مستقبلاً عندما يحين وقت العدالة. لكني أريد كذلك أن أنسى… أن أرتاح من عبء الذكريات المؤلمة وأعيش بسلام.
ارتحت قليلاً عندما وصلت لهذه الفكرة: إذا كانت الكتابة تساعدنا على الشفاء من أوجاعنا فسوف أكتب:
المكان: قبو في مدينة زملكا - الغوطة الشرقية [1]
الزمان: الثالث والعشرون من شهر آذار لعام ٢٠١٨
مضى أكثر من شهر على قصف النظام للغوطة الشرقية ومحاولة اقتحامها، ومضت خمس سنوات على حصار المدنيين فيها، وسبع سنوات على بداية الثورة…
أيامنا الأخيرة في الغوطة كانت صراعاً مع الموت؛ قصف متواصل أرضاً وجواً، حصار، مرض وخوف. قاومنا كثيراً، وكنا على يقين بأنّ من صمد سبع سنوات سيصمد بعد، وستبقى الغوطة حرة وعصيّة على المعتدي. لكن النظام كان يتقدم بشكل سريع، وتيرة القصف كانت تتصاعد مع كل لحظة. كان هناك حديث عن مصالحات ومعابر ”آمنة"، تتالت الأحداث بسرعة وخذلنا العالم.. أذكر أنني قدمت حينها شهادة عبر الإنترنت لمجلس الأمن، شهادة من داخل الغوطة. تحدثت عن سبع سنوات عاشها المدنيون، تحدثت عن مطالبنا السلمية في دولة عادلة، وعن القصف والموت. شاركت من قلب الغوطة التي تقبع في الظلام، الظلام الذي أجبر المستمعين في الطرف الآخر من العالم على إطفاء الأنوار في مجلسهم "مجلس الأمن“، كي يستطيعوا رؤية وجهي وأنا أتحدث… قلت لهم حينها إننا طالبنا بالحرية، ولم نرتكب جرماً نستحق التهجير لأجله… تحدثت بجرأة رغم الخطر، ووضعت الجميع أمام مسؤولياتهم، لكنهم كانوا مستمعين، وبقوا كذلك فقط…
لم يتبق لنا سوا خيار التهجير القسري، هذا إن أمكن اعتباره خياراً! عندما نخيّر بين دخول قوات النظام والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب، وبين اقتلاعنا من جذورنا بحجة نقلنا لمناطق ”آمنة"، هنا يجب التأكيد أنه لم يكن خياراً، بل إجباراً.
أجبرنا على أمرين أحلاهما كان مراً. آخر ليلة لنا في المنزل كانت عندما نزل صاروخ بالقرب منا. تطايرت الشظايا والدخان والغبار في الأرجاء، وتحول المكان إلى ظلام بسبب انقطاع الكهرباء.
نجونا يومها بأعجوبة… ما زلت أذكر كيف كنت أركض لأحتمي بحائط ما، والشظايا تركض معي وتسبقني… ما زالت أصوات الجميع في أذني: "أنا بخير… أنتو بخير؟ يلي بخير يحكي مشان الله الكل يحكي…“
تلك الليلة كانت بداية رحلة العذاب في الأقبية التي بدأت بقبو مدينة سقبا، وانتهت بقبو زملكا، مروراً بقبو في حزة وآخر في عين ترما. الليلة الأخيرة في قبو زملكا كانت هادئة جداً كهدوء الموت.
كل الليالي التي سبقتها كانت تعج برائحة الموت وأصوات القصف، لكن بعد اتفاق التهجير هدأ صوت القصف.
كانت الإضاءة مطفأة في القبو، كنا نطفئها كل يوم حتى لا نكون هدفاً لصواريخ الطائرات، لكنها اليوم مطفأة لأننا أردنا الهرب من نظرات الآخرين… لا نريد أن نرى الخذلان والأسى في وجوه بعضنا البعض. أطفأنا الإنارة وقررنا النوم استعداداً لرحلة التهجير القسري في الصباح التالي، لكنني كنت أسمع التنهيدات طوال الليل. أكاد أجزم أنه لم يستطع أحدنا النوم في تلك الليلة.
أسئلة أطفالي تحوم اليوم في ذاكرتي، لم أستطع حينها الهروب منها، ولم أستطع نسيانها لاحقاً:
سؤال مايا ابنتي عن دميتها التي لم نستطع إحضارها معنا من المنزل، كان اسم الدمية أسامة "على اسم أبيها“… ”ماذاسنفعل بأسامة؟ كيف سنتركه لوحده في المنزل؟ ماذا لو هُدم المنزل وبقي أسامة تحت الركام؟“
أسئلة كثيرة لم أستطع الهروب منها إلا بوعود كثيرة أننا عندما نغادر إلى وجهتنا التي لا نعلمها بعد، سأشتري لها الكثيرمن الدمى، "وسأشتري لكِ غرفة نوم لونها (…)"، سألتها حينها: "ما اللون المفضل الذي ستختارينه؟"
قالت: الأحمر.
حينها ارتحت قليلاً لأنني استطعت شغل تفكيرها بأفكار أخرى.
”إلى أين سنذهب؟“ سأل قصي، الذي كان حزيناً لأنه لن يستطيع العودة لبيته الأول في "حوش الضواهرة“، والذي نزحنا منه إلى منزل سقبا قبيل التهجير بعامين.
لو أنني أستطيع العودة، كنت أحضرت كل شيء… كل شيء في منزلي غالٍ عليّ، كل شيء ثمين وله ذكرى، وإلا لمَ اشتريته واحتفظت به؟
ولكن لو أجبرت على اختيار أشياء محددة، كنت سأحضر "أسامة" ودفتر مذكّراتي، لأنني دونت عليه أحداث كثيرة لم أكن أود نسيانها.
هذا لو كنت أستطيع العودة ، رغم أني مازلت ضمن حدود نفس الدولة إلا أني لا أستطيع العودة ولا المغادرة، وهذا حديث آخر يطول شرحه.
كل شيء في حياتنا معقد، وكل الأبواب موصدة، وكل الطرق غير آمنة. ولازال العالم يعيد على مسامعنا نفس الأكاذيب كل صباح "مناطق آمنة، عودة طوعية آمنة" وأنا أعلم والعالم يعلم بأن لا وجود لكل ذلك حتى تعود العدالة.
غابت العدالة عن بلدي وعن العالم منذ زمن بعيد، عالم متخاذل حكم عليّ بالنفي داخل بلدي. وينادي بعودة المياه لمجاريها مع مجرم حرب و نظام استبدادي.
لن أعود قبل أن تعود العدالة ويحاسب كل منتهك للحقوق في بلادي.
في كل مرة أعود بالذاكرة لتلك الحقبة، أشعر بصداع ثقيل يرهقني… أشعر أن أنفاسي تضيق وكأنني أتنفس مجدداً غبارالقبو والركام…
من قال إن الكتابة تقتل الوجع بداخلنا؟ نحن مشاريع قتلى حتى إشعار آخر…
[1] الغوطة الشرقية: هي إحدى ضواحي العاصمة دمشق
نيفين الحوتري.