إيمان عمر هاشم، ناشطة و رئيسة المجلس المحلي لمدينة حلب سابقاً.
كانت تجلس في مكتبها خلف طاولتها عندما دخل أحد أعضاء مجالس الأحياء، لينظر نحوها بتعجب وصدمة؛ امرأة! ماذا تفعل في مكتب رئاسة المجلس المحلي؟! ما الذي يدعوها للجلوس على كرسي الرئيس؟ لعلها زوجته أو أخته… أو لعلنا "تطوّرنا" وتمّ تعيين "سكرتيرة" في المجلس!
كل تلك الاحتمالات دارت في ذهن ذلك المراجِع، إلا أن تكون تلك السيدة هي الرئيسة حقاً؛ فلا موروثه الاجتماعي أو مخزونه الثقافي، قد يمكّنه وأمثاله من التجرؤ حتى على الظّن -لا اليقين- أن تلك السيدة قد تكون في مكانها الصحيح.
هذا غيضٌ من فيضِ، مواقفَ وأحداثٍ تعرّضت لها تلك (الرئيسة المسكينة)، التي حكمت على نفسها من منظور ذلك المجتمع أن تكون قصةً على كل لسان، "ما الذي تفعله امرأة في مجلس رجال؟!“
كان شعورها بالمسؤولية تجاه ثورتها وقضيتها دافعها الأساسي للترشح لذاك المنصب. ولعلها أرادت أن تثبت لمجتمعها أن ثورتها ثورة بناء وعطاء ومؤسسات. لكن شعوراً بالذنب طالما انتابها تجاه عامة الشعب؛ كانت تتساءل دائماً: ترى لو لم أنتفض وأمثالي لإسقاط النظام في البداية السلمية للثورة، هل كان الناس ليواجهوا ما واجهوه من تشريد وتهجير وأسى؟
لقد جمعت ما بداخلها من إيمان بإمكانيات المرأة وقدراتها، وأقنعت نفسها أنه ما من شيء سيعرقل وصولها حتى لو كانت زوجة وأماً وعاملة. حملت تلك المرأة على عاتقها مسؤولية مواجهة مجتمع بكل أطيافه وتوجهاته وخلفياته الثقافية، ونظرته الدونية الظالمة لدور المرأة المؤطر ضمن قوالب محددة، لا يُسمح لها بتجاوزها. تذكر دوماً كيف ثارت ثائرة أحد أعضاء الهيئة العامة لمجلسها، عندما حازت على غالبية الأصوات في الانتخابات التي جرت بكل شفافية ونزاهة، ليتمّ تنصيبها رئيسة لمجلس المدينة المؤلف من خمسة وعشرين عضواً جميعهم من الرجال، باستثنائها. اتهمّ ذلك "العضو" منتخبيها بالكفر والخروج عن الدين، وطالبهم بمراجعة معتقداتهم، فقد أتوا شيئاً فريّاً بتنصيبهم "امرأة" عليهم.
كم توافد إلى مكتبها أناسٌ غالبيتهم من الرجال -بسببٍ أو بدونه- فقط ليشاهدوا تلك "الظاهرة الغريبة“، الرئيسة! لسان حالهم: كيف ارتضى هؤلاء الرجال أن تقودهم امرأة؟ أليس فيهم من يصلح لذاك المنصب حتى يولوا عليهم ”حرمة"؟! قال لها أحدهم: (عرّف عن نفسه بأنه رئيس مجلس حي يتبع لمجلس مدينة حلب): ”أختي، أنا لا أجالس النساء… هلا أرسلت لي رجلاً أحدثه؟“، بينما حاول آخ، وهو أحد زملائها في المجلس، ربما عن طيب نية لكن في الوقت نفسه عن قصر بصيرة وضعف ثقة بإمكانيات المرأة، حاول أن يفرض عليها رأيه ويملي عليها ما يجب أن تفعله، وكيف عليها أن تتصرف، وماذا عليها أن تقول، لزعمه أنه أدرى منها بأمور الإدارة والتعامل مع قضايا المجلس ومشكلاته.
لقد واجهت "الرئيسة" كل ذلك وأكثر بحلمٍ تارةً وحزم تارةً أخرى، واستطاعت أن تتغلب على كثير من المعوقات وتغير بعض القناعات والأفكار المسبقة عن عمل المرأة وإمكاناتها القيادية. كما استطاعت فرض قيود وآداب على أعضاء المجلس وموظفيه، ابتداءً من أسلوب الحديث ونبرة الصوت ونظرة العين حين يتحدثون إليها، وانتهاءً بالكف عن أحاديثهم الملغومة ونكاتهم، همزهم ولمزهم في حضرتها.
ولعلّ ما زاد من أعباء ومعاناة تلك المرأة الجبّارة كونها وحيدة كامرأة بين مجموعة رجال، فلو أن قانوناً تمّ إقراره بوجوب تحقيق ”كوتا“ نسائية في كل مؤسسة أو مكوّن فعّال في المجتمع، لخفف ذلك من عمق معاناتها وزادها ثقة بعملها وما تقدمّه، ولأدّى ذلك إلى تطوير خطط يضع فيها الجانب النسائي بصمته التي لم ولن يتمكن الرجال من ملء فراغ غيابها. لطالما قابلت ببرود ولا مبالاة وأحياناً بردود حازمة عبارات التهكم والتلميحات المبطنة من مثل: ”من يتخذ القرارات في المنزل؟“، ”لا أتخيل كيف تكون هيئة الأستاذة الرئيسة في المنزل“، ”هل تضعين مساحيق التجميل في المنزل؟“، ”هل تطبخين؟ هل تنظفين المنزل؟“، ”كيف تعتنين بطفلتك الرضيعة؟“ و كأن عليها أن تصبح رجلاً طالما أنها تعمل ما يعتقدونه من أعمال الرجال، أو تخالط الرجال في أغلب أوقاتها. ذات مرة علّقت إحدى قريباتها باستنكارٍ على سفرها إلى فرنسا قائلةً: "لماذا لم يذهب زوجك نيابةً عنكِ" وكأنها مدعوّة لحضور حفل زفاف للرجال… لترد عليها: "وما علاقة زوجي بعملي ومسؤولياتي لينوب عني في أمرٍ لا يعنيه ولا يهمه؟! له عمله الذي يخصه ولي عملي“.
على أنّ نساء كثيرات كنّ يشعرن بالغبطة نحوها والإعجاب بها، يشددن على يدها ويشجّعنها، و يتمنين لو أن لديهنّ ظروفها -على حد وصفهن- حتى يستطعن أن يفعلن ما فعلته. لقد أصبحت ملهمة لكثير من النساء والفتيات اللواتي بدأن بتوسيع دوائر طموحاتهن ورفع سقف أحلامهن نتيجة احتكاكهن بها. لقد شقّ عليها الأمر كثيراً، وكابدت ما كابدته، لكن تشجيع النساء من حولها، وكذلك وجود بعض الأفراد الرجال "القلة" ضمن مجتمع لا يقبل بالنساء في هذا المنصب ، المؤمنين بها وإمكانياتها وقدرتها على إدارة شؤون ذلك الكيان بكل قوة ومهنية، كان أحد ركائز إصرارها على التحدي لتثبت أنها قادرة، كما الرجال وربما أكثر، أن تكون المرأة المناسبة في المكان المناسب، وأنها قد تخطئ، كما الرجل وربما أقل، فجميعنا -بني البشر- نصيب و نخطئ، ونتعلم من أخطائنا، ونكتسب الخبرات ونطوّر الأدوات، لنحقق الأهداف والغايات بكل فخر، سواء كنّا نساء أم رجالاً.
وبين هذا وذاك أكملت "الرئيسة" مدة انتخابها. مسنودة أيضاً على عائلتها الداعم الأكبر والأبرز لها. لقد آمنوا بقدراتها و شجعوها ووقفوا بجانبها وعلى رأسهم زوجها وأخوها. تباهوا بها في كل محفل وموقف وقدموا لها الدفع المعنوي والتشجيع، أما عن بناتها فكن دائماً فخورات بها. كن دائماً يرددن: ”ماما نحن بدنا نصير متلك بس نكبر“ وانعكس ذلك على تكوين شخصياتهن في المدرسة وبين رفاقهن؛ أصبحن أكثر شعوراً بالمسؤولية وحب العمل بروح الفريق.
ورغم كل ما واجهته من تحديات ومشاكل، إلا أن ذلك ما كان ليزيدها إلا إصراراً وتحدّياً للمتابعة والمواجهة ولو كلّفها ذلك في بعض الأحيان التعرض للتهديدات المبطنة والصريحة من جهات عدة. إلى أن انقلب حال المنطقة التي كانت تقطن وتعمل بها، وسيطرت هيئة تحرير الشام على تلك المناطق ووضعت يدها على مبنى المجلس بكل محتوياته وآلياته. لقد فرضت عليها إما العمل تحت إدارتهم وإما ترك المجلس لهم. حاولت بكل السبل إنقاذ المجلس، لكنهم كانوا لها بالمرصاد، حتى اضطرت هي وكامل أعضاء المجلس مغادرة المبنى، رافضة العمل تحت وصايتهم، لتكمل فترة رئاستها، الممتدة خلال عامي (2018-2019 ) بصفتها الاعتبارية، مع استكمال تنفيذ بعض مشاريع المجلس في مناطق أخرى، إلى أن انتهت فترة توليها وتم انتخاب رئيس جديد لدورة جديدة.
تلخص الرئيسة السابقة لمجلس مدينة حلب تجربتها بالقول: ”إن مجتمعاتنا ينقصها الوعي والمعرفة، إنها مجتمعات ساذجة تنفر من الجديد المختلف لأنها تخاف التغيير، مجتمعات انتقائية تجاري ما يشبهها وترفض بقوة من يتحداها ويثور على أخطائها“
وتنهي حديثها عن تجربتها بالقول: ”لا يمكننا الحديث عن العدالة الاجتماعية في سوريا إذا لم يأخذ كل فرد من أفراد المجتمع دوره وحقوقه في الحرية والعيش بكرامة واحترام أطياف المجتمع، ومراعاة قضاياه، وخاصةً قضايا النساء وحق المرأة بالحرية والعدالة وتقلّد المناصب والمشاركة في صنع القرار بكافة جوانبه السياسية والقانونية والاجتماعية“.
إيمان عمر هاشم، ناشطة و رئيس المجلس المحلي لمدينة حلب سابقاً.
Comments