هندسة العدالة: بين شوارع ألمانيا وركام داريّا
- adalaty
- 29 سبتمبر
- 4 دقيقة قراءة

حنان اللكّود، مهندسة مدنية وناشطة لاعنفية من داريّا.
حزيران 2025

بعد المجزرة، خرجتُ من البلدة بجسدي، لكنّ قلبي أبى أن يخرج منها. خرجتُ محملة بحزني وإحباطي، وخوفٍ سكنَ قلبي وأرهقَ روحي، وسؤالٍ لم يبارحْ أيّامي: هل سأعود إليها يوماً؟
اثنا عشر عاماً مضتْ وأنا أجوب شوارع ألمانيا الباردة، أتأمّل الوجوهَ الباهتة والقلوبَ القاحلة، أقارنُ بين هنا وهناك، أمشي هنا بقدميّ وأحلّق هناك بقلبي، فيما أسافر يومياً إلى عملي - الذي يستهلك منّي ثلاث ساعات في وسائط النقل - ما يمنحني رفاهية الغرق في أفكاري ومقاومة مشاعر الغربة، ويمنحني كذلك محاولةً يائسة للتأقلم مع المكان واللغة والمجتمع الجديد. ورغم الأمان والاستقرار الذي حصلتُ عليه بحصولي على الجنسيّة الألمانية، كنتُ وما زلتُ أحلم بالعودة إلى داريّا.
في ألمانيا تعلّمت لغة جديدة، تدرّبت على قوانين بناء جديدة، كتبتُ سيرتي الذاتيّة وقدّمتها لعدّة شركات هندسيّة، حتى وصلتُ إلى مقابلة العمل التي نتجَ عنها توظيفي كمهندسةِ نمْذجة في قطاع الطرق والجسور. وجدتُ مكاناً أمارس فيه مهنتي بكرامة، أصبحتُ جزءًا من فريق يقيّم عملي بميزان الكفاءة، لا النوعِ الجندري ولا الولاء السياسي. عايشتُ بيئة يُحمى فيها القانون، وتُصان فيها الحقوق، وتُقدَّر فيها النساء لا لمجرّد الكوتا ولا لأنهنّ صورة للتظاهر بالمساواة، بل فاعلاتٌ حقيقيات في المجتمع المهني.
يوم هروب المجرم بشار الأسد وحاشيته، بقيتُ مستيقظة حتى الفجر، أتابعُ أخبار سوريا عبر كلّ القنوات الإعلامية، وأسرق من عيون الناس هناك بارقةَ الأمل فألقي بها على يأسي الذي أثقل خطاي طوال تلك السّنين، علّه يتركُني أعود إلى تفاؤلي بمستقبلي في سوريا.
مضتْ فرحةُ الخلاص من المجرمين سريعاً واحتلّت مكانها أسئلةُ مقلقة جديدة:
هل أعود؟ هل يمكن أن أكون جزءاً من إعادة بناء بلدي؟ وهل يكون لي، كامرأة، دورٌ حقيقي في مرحلة العدالة الانتقالية القادمة؟
وبينما يتهيّأ العالم لعقد مؤتمرات ضخمة حول إعادة إعمار سوريا، مؤتمرات غالبًا ما تغيب عنها أصوات النساء السوريات الحقيقية، أو يُختزل حضورهن في خانة الضحايا فحسب، أصبحت أراقب بقلقٍ بالغ كيف يمكن لهذا البناء أن يستقيم، أن يكون بناءً حقيقيًا ودائمًا، دون أعمدته الأساسية: نساء سوريا اللواتي عانين وضحّين وقدّمن الكثير، واللواتي يمتلكْنَ رؤى فريدة لمستقبل بلادهنّ. إن تمكين هؤلاء النسوة، خاصّة اللواتي يمتلكْنَ خبراتٍ مهنية وفكرية راسخة، ليس مجرّد إضافة هامشية أو لفتة إنسانية عابرة، بل هو جوهر العدالة الانتقالية الحقيقية، وهو الضمانة الأكيدة لعدم تكرار الأخطاء التي أوصلتنا إلى هذا الخراب. فإعادة الإعمار الحقيقية لا تبدأ بتوفير مواد البناء والإسمنت والحديد فحسب، بل بإعادة الاعتبار لمن أُبعدن عن دائرة صنع القرار لعقود طويلة، وبمنحهنّ الفرصة كاملة للمساهمة في صياغة مستقبل وطنهنّ، بمواهبهنّ وقدراتهنّ وأحلامهنّ.
بالنسبة لي، لم تعد العدالة الانتقالية مجرّد مسارات قضائية أو مصطلحات أكاديميّة، لقد اختبرْتُها شخصيًا كحاجة إنسانية، إنها حلم إمكانية العودة إلى وطنٍ يشبهني وأشبهه، وطن يبنيني وأبنيه.
في غربتي القسرية، حيث تفتّحت لي نوافذ لم تكنْ لأطلّ منها تحت سماء سوريا المثقلة بالظلم، ترسّخ في وعيي فهمٌ أعمق لجذور العدالة، عدالة تتجاوز النصوص القانونيّة وحدود المحاكم. لم يعد يكفيني مشهد سقوط تماثيل الطغاة الصامتة أو احتراق صورهم الباهتة التي لطالما لوثت بصري وأثقلت روحي. تجاوزْتُ ذلك الطموح الضيق إلى تخيّلِ وطنٍ يُعاد فيه تشكيلُ الهوية السورية برمّتها، وطنًا ينبضُ باحترام وجودي كامرأة، لا كظلٍّ باهتٍ أو هامش منسيّ، بل كقوّة خلّاقة تشاركُ في إعادة صياغة كلّ حرف من حروف هويّته، وطنًا يقرّ بمشاركتي الفاعلة في كلّ لبنة من لبناتِه، من تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة إلى القرارات المصيرية الكبرى، وتتساوى فيه فرصي، مع فرص أي رجل، دون أدنى تمييزٍ، تحيّز، تصنيفٍ أو استخفاف.
أصبح حلمي الآن يتجاوزُ ترميمَ الأبنية المنهارة والطرق المتصدّعة والجسور المدمرة التي مزقت أوصال بلدي. باتتْ روحي تتوقُ إلى إعادة بناء النسيجِ الاجتماعي برمّته، إلى غرس قيم جديدة في نفوس أبناء بلدي قبلَ عقولهم، قيمًا تضمنُ ألا تُنتج الأجيالُ القادمة أشكالاً جديدةً من الديكتاتورية ولا تسمحُ بتكرار مآسي الماضي التي كسرتْ قلوبَنا. أحلم بدمج النساء في صلب مواقعِ القرار، في كلّ مستويات إعادة الإعمار، لا كضحايا تُمسح دموعهنّ ويُقدَّم لهنّ العزاءُ فحسب، بل كخبيراتٍ ماهرات يمتلكْن رؤى عميقة ولغةً حكيمة، وصانعات تغيير يمتلكْنَ حكمة وتجربةً فريدة قادرة على إثراء الرؤيا الجامعة لسوريا الملوّنة، رؤيا تحتضن الجميع دون استثناء، وتستمد قوّتها من تنوّع أصواتنا. لكنّ ما يقضّ مضجعي ليلَ نهار، هو خوفي من أن تفقدَ سوريا طاقاتِها الكامنة، وعقولَها النيّرة التي شحذتْها التجارب المريرة، ونساءها القادرات على إحداث التحوّل الجذري، لأنهن اعتدْن لسنوات طويلة على الصمت القسري أو التهميش الممنهج. أخشى أن يعتدْن على الغياب، وأن تفقدَ سوريا بذلك أغلى ما تملك: إمكانيةَ النهوض الحقيقي، والتحليق بجناحين متساويين بالقوّة.
لكننّي لن أجلس مكتوفة اليدين ولن أنتظر دعوة رسميّة لأبدأ. لقد شرعْتُ بالفعل، رغم المسافات وصعوبة التواصل، في نسج خيوط الأمل والتواصل مع نساء في الداخل، أحاورهنّ وأتبادل معهنّ الأفكارَ والرؤى لتصميم مركز مجتمعي صغير، كنواة لمشاريع أكبر، وبذرة لمستقبل مختلف. قد يبدو المشروع للبعض مجرّدَ خطوط أولية مرسومة على الورق، أو حلمًا بعيدَ المنال في ظل الظروف القاسية، لكن بالنسبة لي هو اللّبنة الأولى في صرح عدالة جديد، عدالة تُبنى من القاعدة الصلبة، من احتياجات الناس الحقيقية، لا من القمة الهشّة التي غالبًا ما تعيد إنتاج ذاتها.
في هذا المركز المجتمعي النسائي المُتخيَّل، أرى سوريا المستقبل تتجسّد، أرى فضاءً آمنًا للنساء للتعبير عن أنفسهن بحريّة، لتطوير مهاراتهن الكامنة، وللمشاركة الفاعلة في صنع القرارات التي تؤثر في حياتهنّ ومجتمعاتهنّ. أتخيّل ورشات عمل تدريبية تقودهنّ ليصبحن رائدات في مجالات مختلفة، من التكنولوجيا المبتَكَرة إلى الفنون الراقية، ومن السياسة المستنيرة إلى الاقتصاد المزدهر. أتخيّل منصّة حيويّة للحوار والنقاش حول قضاياهن وهمومهنّ المشتركة، وحاضنة دافئة لمبادراتهنّ الخلاّقة التي تهدف إلى إصلاح المجتمع وبنائه من جديد بروح التعاون والتكامل. هذا المركز ليس مجرّد مكان، بل هو رمز لقوّة المرأة السورية وإصرارها على المساهمة في بناء مستقبل أفضل، يليق بتضحياتها وآمالها.
أتخيّل وطناً يُسمع فيه صوت النساء في لجان التّخطيط كما في ممرّات المدارس، تُنتخب فيه المرأة لا لأنّها جديرة بالثّقة فحسب، بل لأنّها إنسانة تملك الرؤيا. وطنًا تُصمّم فيه الجسور والطرق لتصل الجميع بالجميع.
وكلّ مساء، سأكتب على جدار الغربة:
"سأعود، لا لأستعيد ما فُقد، بل لأبني ما لم يُبْنَ بعد."
حنان اللكّود، مهندسة مدنية وناشطة لاعنفية من داريّا.





