5 حزيران
- adalaty
- 8 سبتمبر
- 6 دقيقة قراءة

ريتا محمود، فنانة وناشطة سورية.
حزيران 2025

آكل العنب الأحمر وحدي على أحد شواطئ المتوسط. لا في اللاذقية، ولا جبلة، ولا بانياس. بل على شاطئ إسباني، كان قبل قرون ممراً لخيول العرب، والآن لا يشبه شيئًا من ذاكرتي.
هذا العنب لا يشبه عنب دوالي بيت جدي، ولا الرمل هنا يشبه رمل الساحل الذي كبرتُ عليه، ولا حتى الموجة التي تلامس قدميّ تشبه الموج في بانياس حين كنا نهرب من الشمس في عز الظهيرة.
جئتُ أهرب من ضغط باريس، من الزحام، من ضيق الجدران، من الأخبار التي لا تنتهي. الشاطئ جميل، طويل، هادئ، الشمس تملأ الفراغ، والجميلات يحتمين تحت الشمسيات بأجساد خفيفة لا تعرف التعب.
أشعل سيجارة، أفتح هاتفي على مضض. كنت قد قرّرت أن أبتعد عنه، أن أختبر ثلاثة أيام دون متابعة الأخبار، دون قلق. لكنّني ضعفت. قلت لنفسي: لا شيء عاجل، لا جديد. لا داعي للفيسبوك، فهو لا يحمل إلا الحزن، فلأفتحْ إنستغرام، أبحث عن شيء جميل.
لكن الجميل لم يأتِ، ما جاء كان خبراً صاعقاً؛ سطران فقط، في جريدتين صغيرتين: "عملية أمنية في إحدى قرى جبلة".
أقرأ، أتمعّن، أبحث عن الاسم، إنها قريتنا! لا، لكنها لا تبعد إلا عشرة كيلومترات عن منزل أبي وعمي. هناك اعتقالات، هناك حرق منازل، هناك قتيل.
اتصلتُ بأبي، لم يُجب. كتب لي لاحقًا: التغطية ضعيفة. هو ليس القتيل، تنفست!
سألته: ماذا يحدث؟ تحدثنا البارحة، كان يعدّ السباغيتي، قال إنه سيذهب مع عمي ليلعب الورق عند ابن عمه. تحدثنا عن العيد، عن محمود الذي تخرّج، وطلب مني أن أشتري له هدية نيابة عنه.
اليوم يخبرني عن حظر تجوال، و يطمئنني أن قريتنا بعيدة عن الطريق العام، لم يدخلها أحد بعد.
اليوم وقفة العيد. وغدًا عيد. أطلب منه أن يكتب لي كلما استطاع. أبحث عن تفاصيل، عن اسم، عن شاهد، عن رواية، لا أحد يتحدث، لا أحد يرى، لا أحد يكتب…
أكثر ما يوجعني هو حرق البيوت. لماذا تُحرق البيوت؟ كيف تصبح الجدران المألوفة رمادًا؟
أفكّر بمن يمكنني الاتصال بهم، أصدقائي يمرّون كظل في ذهني. لا أحد… أشعر بحلقي يجفّ، أريد البكاء، أقاوم.
لا أعلم ماذا أحتاج، لا أستطيع أن أتخيل سيناريو جميلًا، لا أريد أن أفكر بمجزرة أخرى.
تمنيتُ لو أن والدي وعمي بقيا في دمشق التي كانت آمنة نسبيًا. لكنْ من بقي لهم هناك؟ أنا وأخي هنا في أوروبا، وعمي فقد زوجته، المرأة التي كانت صوت الدفء في البيت….العمل نادر، والروتين قاتل .لا حجج لديّ لإقناعهم بالعودة ولا أريد استخدام المجزرة كسبب للعودة.
في هاتفي أرشيف من صور وأرقام أبطال الثورة. أحدهم، كان مصورًا في الشمال، عاش الحصار، وثّق القصف والدم والدخان. اليوم صار مصورًا عالميًا، حاز جوائز، أصبح مشهورًا. عينه التي كانت تنزف، أُطفئت. يعمل الآن مع وكالة سانا، ويفاخر بعلاقاته داخل الحكومة الجديدة. يضحك وهو يعرض عليّ تأمين “كفيل” إن أردت العودة… لم أضحك.
صديقي الآخر، مصور الغوطة، هُجّر بالباصات الخضر، صار صوتًا خافتًا يبحث عن “خفض التصعيد”.
ووسط هذا الانكسار، هناك من تبقّى. من لم تُطفأ عينه، ولم تتآكل ذاكرته. أصدقاء وأحبة ما زالوا في البوتقة، يعترضون، يقاومون، ينتظرون. بعضهم ينتظر عدالة غائبة، وبعضهم ينتظر ظهور أحبته من غياهب الاعتقال. معتقلون سابقون، يحملون وجعهم كراية، ويترقبون يومًا يُحاكم فيه الجلاد.
لكن أكثر ما يؤلمني هو رفاق الثورة الذين يرون في ما يحدث اليوم انتصارًا لها. كيف يمكن أن ما يجري اليوم يُمثّل ثورة الكرامة؟ هل يرضي هذا من رحلوا حاملين أمل الحرية والعدالة؟ أخاف أن أصرخ بهذا السؤال، فأكتفي بكتابته.
أشعر وكأنني عدت إلى 2011، حين كنت أشرح أهداف الثورة لمن حولي دون أن أستخدم كلمة “ثورة”. أخفيها مثل سرّ، أُمرّرها في الحديث، أزرعها في المقارنات.
كنت أعرف شابًا مؤيدًا للنظام. مراهقًا في الثانوية، يحلم بالجاه والسيارات والشهرة، مثل الذين يلمعون في ظل السلطة، كنت أصبر عليه، أحدثه عن عاملات التنظيف في المستشفيات، عن راتب والدي الجراح مقارنة براتبي، عن القطن والقمح والتبغ، وقوانين الأسد الجائرة، عن حمشو ومخلوف، وعن حماة. وفي يومٍ ما، نظر إليّ وقال: لماذا لستِ معارضة؟ بعد كل ما رويته، يجب أن تكوني مع الثورة. عندها، لم أعد أخفي شيئًا، أخرجت كل ما خبّأته: علم الثورة، أغاني الساروت، صور المظاهرات.
حين أفكر اليوم في أولئك الذين كنّا نحلم معهم، وأرى بعضهم يحتفل بما كنّا نخشاه، أشعر أن صوتي يُحبس مجدّدًا. لكنّني لا أريد أن أخفي شيئًا بعد الآن. لا أريد أن أشرح، أن أُقنع أحداً، أو أُهادن. لا أريد أن أطمئن نفسي بكذبة، ولا أن أواسيهم بتجميل الواقع.
أعود إلى العنب الأحمر، أحاول أن آكل حبّة، فيرفضها حلقي. أعصر الحبات بين أصابعي كما يُعصر قلبي. العصير يلتصق بجلدي، كما تلتصق الذكريات التي لا تُغسل.
أتذكّر سهرة جمعتنا قبل سقوط النظام. كنا كثيرين، نحمل رؤى مختلفة، لكننا كنا نحاول أن نفهم. جلسنا ساعات نناقش المقاومة المسلحة، نُسهب في الأمثلة، نعود إلى الخلفيات. وفي النهاية، اتفقنا جميعًا: لا فصيل مسلّح يمثّلنا. لا أحد يتحدث باسمنا حين يحمل بندقية. مع احتفاظ الجيش الحر بمكانة في قلوب الجميع.
وفي عشاء آخر، قبل أيام قليلة من سقوط النظام، دارت الأحاديث حول اغتيال حسن نصرالله. ارتفعت أصواتنا، تصادمت الآراء، فتاة سورية معارضة كانت بيننا، رفضت موته. قالت: "ما فعله بأهل سوريا لا يُغتفر، لكنه ما يزال رمزًا للمقاومة". صرخ الجميع في وجهها، دافعنا عن الدم، عن الحقيقة، عن الذاكرة. واليوم، أبحث عنهم، أولئك الذين لم يستطيعوا تبرئة المجرم. اليوم لا أجدهم.
أسأل أحد الأصدقاء عن نصي الذي تقرأونه، فلا يوافقني الرأي. قال لي ذات مرة: “الظرف تغيّر، وإن لم نكن معهم، فنحن مع الآخر.” ابتلعتُ دموعي بصعوبة. كانت جملته كصفعة. شعرت أن شيئًا في داخلي انكسر، أنني فقدت لغة مشتركة كنت أتشبّث بها، لم أعد أعرف ما تبقّى منّا، ومن الثورة. أتدارك قلقي وأُذكر نفسي بأنه لا يعني ما يقول.لا يعني أيٌّ من هذا أننا افترقنا، ربما هو عتب بسيط أحمله في قلبي. لحسن الحظ، الثلاثة المذكورون احتاجوا فقط لبعض الوقت ليعودوا إلى رشدهم ويدركوا بأنفسهم أن العدالة لا تزال غائبة، وأن ما يحدث لا يعبر عنهم ولا عن ما يتمنون ويحلمون به.
أذكر حين كنا — أنا وعائلتي، كما كثير من العائلات — نقول إننا خرجنا في الثورة نصرةً للمستضعف، لمن لا يملك صوتًا، لمن تختلف ظروفه، لمن ظُلم وذُلّ واعتُقل، حتى وإن كنا نحن بخير. لم يكن يكفي أن نكون وحدنا بخير.
ما أريده اليوم قد يبدو حُلُمًا، لكنه الحقيقة التي لا أتخلى عنها. هو منطقي، حتى لو بدى ساذجًا.
أريد سوريا مفتوحة للجميع، لكل أبنائها. أريد أن نكون سواسية، بلا تمييز، بلا فوزٍ على حساب آخر.
أريد أن أعود، لكن ليس وحدي. أريد عدالةً تسبقني، وحريةً تشمل الجميع. أريد إنصاف الغائبين، وقصاصًا لمن أجرم، وأبوابًا مفتوحة للفرص لا للذل. أريد بيوتًا لا تغزوها النيران، بل قصاصات الياسمين، والورد الدمشقي… لا الرماد، ولا بقايا الرصاص. إن غياب العدالة لا يُنتج سوى الظلم، ولا يخلّف سوى ثأرٍ لا يهدأ.
أتذكّر جملةً قالها معتقل سابق، سمعته منذ أيام قليلة يتمتم بها: “لو استطعت، لانتقمت من العلويين كلهم.” هل ألومه؟ لا. أفهمه، ربما أكثر مما يتوقع. أفهم النار التي تشتعل داخله، أفهم وجعه، وجلاده الذي يعيش آمنًا على بُعد كيلومترات، بينما هو يحمل آثار التعذيب في جسده كل صباح.
الرغبة في الثأر ليست مرضًا، بل نتيجة.
ما حدث وما يحدث ليس خطأه؛ إنه ذنب من أراد السلطة، لا الحرية، من أراد القصر، ونسِي أن البيوت التي يراها من نوافذه المذهّبة تعود لأهالي المظلومين.
إن غياب العدالة لا يُنتج إلا مزيدًا من الظلم، ولا يخلّف سوى ثأرٍ يتربص بنا في العتمة.
أتذكّر صوت إحدى الناجيات من معتقلات الأسد، كانت تقول بحدة لا تشبه إلا من رأى الجحيم: “لا أسامح، ولو رأيت من عذّبني لقتلته.” توقفتُ طويلًا أمام كلماتها. كيف ألوم من عاش كل ذلك، من عُذّبت حتى تغيّرت ملامحها. لكنني أخاف عليها لا منها. أخاف أن تقتل من لم يعذّبها، ظنًا أن ذلك سيطفئ وجعها، لأنها إن فعلت، لن تصبح جلادة، لكنها ستُترك وحيدة في هوة جديدة، بلا اسم، بلا اتجاه.
لماذا نرمي بها إلى هذا المصير؟ لماذا نحمّل الضحية ثأرًا لم يُنجز؟ لماذا نتركها تتلوّى، بدل أن نقودها نحو العدالة؟
أليس أولى بنا أن نُحاكم جلادها علنًا، أن تقف أمامه وتقول: “أنا لست ضحية بعد الآن، ولن تراني ضعيفة أبدًا”؟
قبل الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، كنا نقول: إن أمسكنا بالأسد، فلن نقتله.
قلنا إنه يجب أن يذوق مرّ السجون، وأن يشرب من نفس الكأس، لكن حتى ذلك لن يكون كافيًا، القتل لن يكون عقابًا، بل راحة له.
كنا نفهم — بوعي جماعي مدهش — أن المحاكمة ليست لإنقاذ المجرم، بل لإنصاف ضحاياه. أن نعيد لهم بعضًا من الكرامة، من الحق ومن الضوء.
أعرف أن بعض الجراح لا تُقارن، ولا تُروى كاملة، لكن إن بقي لنا شيء، فهو أن نروي. وهذه شهادتي، كما استطعت أن أعيشها، لا كضحية، بل كمن وقف مع الضحايا، وما زال.
أقف اليوم أمام من فقدوا بيوتًا، أحبّة، وربما أنفسهم في الطريق. لا أزعم أنني مررت بما مروا به، لكنني أحمل في داخلي صدى تلك الخسارات، وأسعى، بالكلمات، ألّا أخونها. دمشق تغيب عن أُفقي، كما يغيب وجه العدالة، وأخاف ألا يعودا يومًا.
إن كانت الثورة في أصلها بحثًا عن كرامةٍ، فلا يليق بها أن تنتهي دون أن تحفظ الكرامة لجميع أبنائها… حتى للذين لم يروها بعد.
ريتا محمود، فنانة وناشطة سورية.





