العدالة الانتقاليّة المؤجّلة
- adalaty
- قبل يومين
- 3 دقيقة قراءة

د.عائشة الطعمة، طبيبة وناشطة.
حزيران 2025

هناك في "أم الفقراء" كما يحب أهل المدنية أن يطلقوا عليها، في مدينتي معرّة النعمان، إحدى مدن ريف إدلب الجنوبي التي خرجت مبكراً عن سيطرة نظام الأسد، كنت حينها في عيادتي التي لا أزال أذكرها جيداً؛ بيت عربي مكوّن من غرفتين وفسحة سماوية، جعلْتُ من إحدى الغرفتين مكاناً للعلاج وفي فسحتها السماوية مكاناً لشحذ النفس بالأمل والصفاء مع سماع صوت العصافير التي ترابط معنا منذ الأزل، واستنشاق عبير الياسمين الذي لم تستطع رائحة الدواء ولا البارود أن تطغى على رائحته.
أنهيت جدول مواعيدي الذي لم يكن مزدحماً ذلك اليوم، ثم توجّهت إلى منزل عائلتي الذي لم يكن بعيداً، كانت أمي قد أعدّتْ لنا الطعام لأننا كنا على موعد مع خالتي لزيارة بيت جدّي لأمّي. جلسْتُ بجانب المدفأة وما إن هممْنا بالأكل حتى سمعنا دويّ انفجار قوي لدرجة أن المدفأة سقطت وزجاج النافذة تناثر على الأرض. بدأت أمي بالصراخ وأخي الصغير بالبكاء، كنّا معتادين على جميع أنواع القصف من قبل طائرات نظام الأسد، لكنّها كانت المّرة الأولى التي يكون فيها القصف قريباً إلى هذا الحدّ.
خرجْتُ مسرعةً لأرى مكان القصف، فجميع جيراننا -كما هو الحال في المدن الصغيرة- هم من الأقارب، ومن المؤكّد أنّ القصف قد طال منزل أحداً منهم. لم أكدْ أفتحُ باب المنزل حتى سمعْتُ صوت الطائرة قد عادتْ من جديد، وتلاها صوت صفير الصاروخ الذي يقطع السمع والقلب بنفس القدر. لم أستطع دخول المنزل، فقد كانت هناك مسافة مكشوفة قبل أن أصل إلى الدرج المؤدي لداخله. جلسْتُ على الأرض وكانت الشظايا تتساقط من حولي كالمطر، وهي المرة الأولى التي لم أكد أجزم فيها بأنني سأخرج سليمة.
انقطع صوتُ الصاروخ وكذلك صوتُ تساقط الشظايا، وعلا صوتُ الناس في الخارج، عندها أيقنْتُ أنّ الطيران نفّذ خطّته الدنيئة ذاتها، فقد عاودوا القصف في ذات المكان بعد أن تجمّع الناس لإنقاذ الجرحى وإجلاء الشهداء، ممّا يضمن لهم عدداً أكبر من الضحايا. دخلت المنزل وأنا لا أزال أجهل مكان القصف بالتحديد، فلم تعد لدي الجرأة لمعاودة الخروج. مرّتْ دقيقتان من أطول الدقائق، وجاء من الشباك صوت ابن عمّ أمي يخبرُنا بمكان القصف، فقد كان بجانب بيت خالتي التي كنا على موعد معها، والذي يفصل بينه وبين بيتنا شارعٌ واحد.
أخبرَنا أنه قد أوصلَ خالتي لمنزل جدّي بعد أن وجدها أمام منزلها تائهة, تبحثُ عن زوجها الذي خرج ليساعد الناس بما يستطيعه. تبعناها إلى منزل جدّي، كانت تقف عند الباب ترفض الدخول قبل سماع خبر عن زوجها يطمئنها، فقد ذهب خالي وزوج خالتي الأخرى للبحث عنه في مشافي المدينة الميدانية ومشافي المناطق الأخرى التي تم إسعاف الجرحى ونقل الشهداء إليها. كانت مجزرة مروّعة كما أراد لها نظام الأسد أن تكون. انتظرنا حتى المساء، إذ عاد خالي ولم يكن زوج خالتي معه، لكنه استطاع أن يتعرّف على كفّ يده الذي كان مصاباً بفتق فيه، من بين مجموعة من الأشلاء.
اليوم، بعد مرور تسعة أعوام، أقاربُ بين مشهد خالتي التي كانت على باب المنزل تنتظر خبراً عن زوجها وبين مشاهد آلاف العوائل التي رابطتْ على أبواب المعتقلات ومسالخ الموت لتعرف أخبار أبنائها. حظيتْ خالتي على بضعة أشلاء من جسد زوجها بينما لم يحظَ الباقون بهذا الترف؛ بجثمان أو أشلاء داخل قبور يضعون عليها أكاليل الورد، يقصّون عليهم حكاية النصر، و يخبرونهم أن صرخاتهم ودماءهم لم تذهب سدى...
وأتساءل، ترى هل كان سماعهم بعذابات أبنائهم فيما لو كانوا سمعوا بها، ورؤية جثامينهم فيما لو كانوا عثروا عليها سيخمد النيران في صدورهم؟ أم أنه كان سيزيد من حقدهم على تلك العصابة ومن مطالبتهم بتحقيق العدالة ومحاسبة من كان سبباً في مواجعهم؟ ترى هل من حقّ أحد غير أولياء الدم أن يقرّر الصفح أو شكل العدالة؟
هل باتتْ المطالبة بالعدالة تقوّض السلم الأهلي؟ وهل العدالة المؤجلة هي المخرج لمنع شلّال الدم الذي لم يتوقّف منذ أربعة عشر عاماً؟
السلم الأهلي الحقيقي لا يقوم على تسويات وصكوك غفران مجّانية دون أسس ومعايير شفافة، وإلا سيكون هذا السّلْم عائماً على بحر من القنابل الموقوتة التي يمكن لأي أزمة مهما كانت صغيرة أن تفجّرها.
د.عائشة طعمة، طبيبة وناشطة.