المحكمة العليا الفرنسية تلغي مذكرة التوقيف بحق بشار الأسد
- adalaty
- 29 يوليو
- 3 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 3 أغسطس

ليندا عثمان LL.M، محامية و ناشطة حقوق الإنسان.

أصدرت محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 25 تموز/يوليو 2025 قرارًا يقضي بإلغاء مذكرة التوقيف الصادرة بحق الرئيس السوري السابق بشار الأسد، والتي كانت قد أصدرتها دائرة التحقيق المختصة في قضايا الجرائم ضد الإنسانية في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، على خلفية اتهامه بالمشاركة أو التواطؤ في استخدام الأسلحة الكيميائية خلال الهجمات التي استهدفت الغوطة ودوما في آب/أغسطس 2013. وقد استندت المحكمة في قرارها إلى مبدأ الحصانة الشخصية لرئيس الدولة الأجنبية أثناء فترة ولايته، معتبرة أن القانون الدولي العرفي لا يسمح، في حالته الراهنة، بإجراء ملاحقات جنائية ضد رئيس دولة أثناء ممارسته لمهامه، حتى إذا تعلق الأمر بجرائم جسيمة كالتي تدخل ضمن اختصاص القانون الجنائي الدولي، كجرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية.
هذا القرار أعاد التأكيد على الوضع القانوني الراهن للحصانة الشخصية (immunité de juridiction pénale personnelle) التي يتمتع بها رؤساء الدول الحاليون بموجب القانون الدولي العرفي، والتي تم تأكيدها في اجتهادات قضائية دولية، أبرزها قرار محكمة العدل الدولية في قضية "جمهورية الكونغو ضد بلجيكا" (2002)، حيث قضت المحكمة بأن كبار المسؤولين في الدولة، بمن فيهم رؤساء الدول، يتمتعون بحصانة مطلقة من الملاحقة القضائية أمام المحاكم الأجنبية خلال فترة ولايتهم، دون استثناء حتى في حالة الاشتباه بارتكابهم جرائم دولية جسيمة. وقد تبنت محكمة النقض الفرنسية هذا التفسير دون إدخال أي قيد أو استثناء موضوعي أو وظيفي على هذا النوع من الحصانة.
لكن ما يميز هذا القرار هو أن المحكمة نفسها أكدت في تعليلها أن هذه الحصانة لا تستمر بعد انتهاء الولاية، وأن زوال الصفة الرسمية عن الشخص المعني يفتح الباب أمام الملاحقة القضائية. وهذا ما ينطبق فعليًا على حالة بشار الأسد، الذي لم يعد رئيسًا للدولة السورية منذ كانون الأول/ديسمبر 2024. وعليه، فإن الأساس الذي استندت إليه المحكمة لإلغاء مذكرة التوقيف هو كونها قد صدرت أثناء ولايته، لا بسبب عدم اختصاص المحكمة أو لعدم كفاية الأدلة، وهو ما يعني قانونًا أن الملاحقة يمكن أن تستأنف، وأن إصدار مذكرة توقيف جديدة بحقه بعد انتهاء ولايته بات جائزًا.
من الناحية القانونية، لم يلغِ القرار إمكانية ملاحقة الأسد عن الجرائم نفسها في المستقبل، وإنما حصَر العائق في وجود الحصانة الزمنية المرتبطة بصفته الرسمية. وهذا يتماشى مع ما هو مستقر في الفقه القانوني بشأن الطابع المؤقت للحصانة الشخصية، الذي لا يمنع المسؤولية الجنائية الفردية بعد انتهاء الولاية، وهو ما يميز هذا النوع من الحصانة عن الحصانة الوظيفية (immunité ratione materiae) التي تبقى قائمة حتى بعد مغادرة المنصب، ولكن في سياق الأفعال الرسمية فقط، وليس الجرائم الدولية.
بالتالي، فإن القضاء الفرنسي، بموجب هذا القرار، لم يتنصل من اختصاصه العالمي في الجرائم الدولية، بل أكد استمرار التحقيقات التي تجريها السلطات القضائية الفرنسية في هذا الملف، والتي تقوم على أساس مبدأ الاختصاص العالمي (compétence universelle)، المكرّس في القانون الفرنسي بموجب قانون 9 آب/أغسطس 2010، والذي يسمح للنيابة العامة الفرنسية بمباشرة التحقيق في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب حتى وإن لم تقع على الأراضي الفرنسية أو لم يكن مرتكبوها أو ضحاياها فرنسيين، شريطة توافر بعض الضمانات القانونية والإجرائية، وهو ما تحقق بالفعل في هذه القضية.
وقد سبق لمحكمة الاستئناف في باريس أن أيدت قانونية مذكرة التوقيف في حزيران/يونيو 2024، غير أن النيابة العامة استأنفت القرار أمام محكمة النقض على أساس تمسكها بمبدأ الحصانة الشخصية، وهو ما قبلته المحكمة العليا بالنظر إلى التفسير الراهن للقانون الدولي، دون أن تمس بجوهر التحقيق أو الأهلية الموضوعية للمحكمة في نظر الجرائم نفسها. كما أن القضاء الفرنسي أصدر لاحقًا مذكرة توقيف ثانية بحق الأسد في كانون الثاني/يناير 2025 تتعلق بواقعة أخرى تمس جرائم حرب ارتُكبت ضد مواطن فرنسي سوري في درعا عام 2017، ما يعكس استمرار النهج القضائي الفرنسي في متابعة هذا الملف.
إن الأثر القانوني المباشر لهذا القرار يتمثل في إعادة ضبط الإطار الزمني والإجرائي للملاحقة، وليس في إسقاط التهم أو غلق التحقيق. كما أنه لا يمس بشرعية وقانونية الأساس الإثباتي الذي استندت إليه النيابة العامة، والذي يشمل أدلة جنائية مستقلة من شهادات شهود، وأشرطة فيديو، وتحليلات مخبرية، وسلسلة قيادة تُنسب مباشرة إلى الأسد بصفته القائد الأعلى للجيش السوري آنذاك، ما يضعه، على الأقل من الناحية القانونية، في موقع المتواطئ أو المحرّض أو المنفّذ ضمن التسلسل القيادي.
في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن قرار محكمة النقض الفرنسية، وإن مثّل انتكاسة محدودة على مستوى التوقيت، إلا أنه لم يُلغِ القابلية القانونية لملاحقة بشار الأسد، بل حصر الحماية الإجرائية في الفترة التي كان يشغل فيها منصبه كرئيس للدولة. كما أعاد القرار التأكيد على أن الحصانة لا تشكل عائقًا دائمًا أمام ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية، بل هي مرتبطة بالمنصب وتنتهي بانتهائه. وهذا ما يفتح المجال أمام إصدار مذكرات توقيف جديدة، سواء من القضاء الفرنسي أو من جهات دولية أخرى، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية إذا ما توفرت الشروط الموضوعية والإجرائية ذات الصلة.
أخيرًا، وعلى الرغم من أن القرار لم يرقَ إلى مستوى التغيير الجذري في اجتهادات الحصانة، إلا أنه يكرّس مبدأ بالغ الأهمية في مسار العدالة الدولية، وهو أن نهاية المنصب تساوي بداية المحاسبة، وأن مبدأ عدم الإفلات من العقاب لا يسقط بالتقادم ولا يحجب بمجرد الصفة الرسمية، بل يجد طريقه إلى التحقيق والمساءلة متى زالت موانعه الشكلية.
ليندا عثمان LL.M، محامية و ناشطة حقوق الإنسان.





