top of page

بعد السقوط: سردية من قلب الخيبة

  • adalaty
  • 7 سبتمبر
  • 3 دقيقة قراءة


نيفين حوتري


حزيران 2025


البوستر من تصميم رسامة الكاريكاتير أماني العلي.
البوستر من تصميم رسامة الكاريكاتير أماني العلي.


قالت: "قومي بسرعة.. علقت بينهم.. تعالي حلّي المشكلة". 

الخلاف نفسه يتكرر كل مرة، أكاد أجزم أني شهدته في كل نقاش مشابه، وهنا يجدر بي القول: سواء دار النقاش بين مجموعة من الرجال أو النساء، أو في حال حضر الجلسة معتقل سابق أو مهجرة قسراً أو أخ فقد أخاه بقصف ممنهج أو طالبة فقدت فرصتها في متابعة تعليمها… في جميع الحالات كان يجب علي أن أوضح الآتي:


"الأعزاء جميعاً.. نشعر بحجم الغضب واليأس في داخلكم، بالتأكيد طلباتكم محقة ومشاعركم صادقة ومتوقعة، لكني أود الإشارة إلى أننا نتحدّث عن مرحلة ما بعد الثورة، فلا تسقطوا ما سمعتموه في الجلسة عن العدالة الانتقالية على وضعنا اليوم قبل الخلاص من نظام الحكم الحالي. نحن اليوم نتحدث عن مرحلة مستقبلية يكون فيها النظام الاستبدادي المجرم قد سقط وانتهت الحرب وفتحت السجون وعدنا لمدننا التي هُجّرنا منها قسراً، حينها يأتي وقت العدالة الانتقالية. غضبكم مبرر لأنكم تفكرون في العدالة قبل انتهاء الحرب ومحاكمة المجرمين لكن في الحقيقة عليكم أن تفكروا بها كحالة مستقبلية لاحقة ولا بد منها لتحقيق السلم الأهلي وعودة الحياة بين المواطنين في البلد والجيران في الحي والأخوة في العائلة الواحدة.

لا تفكروا بما مضى، فقد عشنا 14 عشر عاماً في سوريا ضمن ظروف قاسية تنوّعت بين إطلاق رصاص على متظاهرين طالبوا بإسقاط نظام حكم ديكتاتوري، واعتقال مئات الآلاف من النساء والرجال، أطفالاً وشباباً ومسنين، قصف يومي وحصار على مناطق جغرافية واسعة، نزوح وتهجير وإخفاء قسري وغرق أثناء الفرار من البلاد في محاولة للبحث عن فرصة حياة أفضل. لا تستحضروا كل ما عشناه في هذه الجلسة التدريبية حول العدالة الانتقالية، ولا تفكروا بالحاضر الذي يتسم بتوقف الحل السياسي والعسكري، بكل فكروا بالمستقبل البعيد الذي سنشهد فيه سقوط نظام الطاغية بشار الأسد واستعادتنا لحياتنا بعد انتهاء حكم عائلي دام أكثر من خمسين عاماً."


ما حدّثت به الحضور عن المستقبل البعيد الذي سنشهد فيه ولادة حياة جديدة للبلاد، حدث بالفعل العام الماضي، تحديداً يوم 08/12/2024 الساعة السادسة والثلث صباحاً عندما أعلن أحد المذيعين في إحدى الفضائيات ما يلي:

"الساعة الآن السادسة وثماني عشرة دقيقة تماماً بتوقيت دمشق سـوريا من دون بشار الأسـد، قيادة الجيش تخبر الجنود بسقـوط النظام في سـوريا"


وقد مر على ذلك اليوم ما يقارب ستة أشهر، عشنا خلالها الفرح بالنصر والعودة وواجب بناء سوريا، واختبرنا ما كنّا نصفه أمس بالمستقبل البعيد. اختبرته بنفسي، أنا نيفين الحوتري التي اعتدت مراراً وتكراراً إعادة نفس عبارات التطمين للمتشاجرين داخل القاعات التدريبية.


اختبرته في موقف حقيقي عندما وجدت نفسي ذات يوم جالسة على مائدة غداء مع أشخاص لا أعرفهم مسبقاً، قيل لي أن أحدهم تربطه قرابة مع أحد مرتكبي المجازر. أقنعت نفسي، أو بشكل أدق أجبرت نفسي، أننا اليوم بحاجة لطي صفحة الماضي والبناء على الحاضر، لكن عندما ذكر الشخص قريبه بشكل عابر.. ذكر اسمه ببساطة دون أن يخجل من تضحيات الحاضرين، شعرت بغثيان وبحرارة في جسدي، كنت أسمع ضربات قلبي، ولم أستطع البقاء فخرجت من المكان مسرعة.


شعرت بتضارب الأفكار؛ يجب أن نطوي صفحة الماضي لنعيش الحاضر، لكن ليس قبل معاقبة مرتكبي الجرائم وتجريم من يدافع عن إجرام الأسد والعزل السياسي والاجتماعي لكل من لم تشعره إنسانيته بالخزي والعار والخجل من قرابته أو معرفته بمرتكب جريمة ما بحق أي مواطن سوري من أبناء الثورة.


لم يكن ذلك الموقف الوحيد الذي عشته بكل تداعياته العاطفية والجسدية، إذ تكررت المواقف في نقاشات سياسية نسائية بإحدى الجلسات وحديث عابر تناهي لسمعي بالمواصلات العامة.


مازلت أشعر بكل التقلبات العاطفية، من غضب لا أستطيع التحكم به، لتقلبات جسدية، غثيان وصداع، ولكن أنا اليوم لست بنفس الاتزان السابق الذي أدخل به إلى قاعة التدريب لأدير نزاعاً بين طرف يشعر بالظلم ويريد العدالة الكاملة وآخر يريد بناء سلام.


اليوم حين أقابل ابنة معتقل لم تستطع معرفة مصير والدها بعد فتح كافة السجون، لا أستطيع سوى التضامن معها، بل إنني أصاب بعدوة غضبها وعجزها.


حتى المستقبل الذي كنت أقول للنساء أن يتخيلوه بعد سقوط النظام، لم يحمل عدالة ويبدو أنه لن يحملها يوماً.

لن تكون هناك عدالة كاملة في سوريا، فمهما بلغ القانون من العدالة لا يمكنه إنصاف ملايين السوريين الذين تعرضوا لإجرام جماعي مركب على مدى عقود طويلة.



نيفين حوتري

 
 

المقالات المنشورة على الموقع تعبر عن رأي الكاتبة فقط ولا يتبناها المركز أو القائمين على العمل

©Adalaty 2023 

bottom of page