top of page

عندما يرحل السجان ويبقى السجن في الداخل

  • adalaty
  • 15 سبتمبر
  • 4 دقيقة قراءة

تاريخ التحديث: 20 أكتوبر



ree


سمر كوكش، ممثلة وناشطة سورية.




حزيران 2025


البوستر من تصميم رسامة الكاريكاتير أماني العلي.
البوستر من تصميم رسامة الكاريكاتير أماني العلي.


عرفت ما حدث فورًا، فقد كانت الأحداث تتسارع من حولي بسرعة جنونية، تجعلني أخمن وأستشعر أن شيئًا كبيرًا قد وقع، ومع ذلك، لم أكن أصدق. ذهبت نحو التلفاز، جلست أمامه أتابع الأخبار بنفَسٍ محبوس، وكلما كانت الصورة تظهر، كان خفقان قلبي يزداد. صحيح، والله لقد هرب الأسد. سوريا أصبحت بلا الجزار، بلا المجرم، بلا الديكتاتور.


هل يعقل؟ هل انتهى عذاب السنين الماضية؟ هل تحولت كل المعاناة، الخوف، الألم والقهر  إلى مجرد ذكريات من الماضي؟


يا الله، كم انتظرنا هذه اللحظة. كم حلمنا بها، وتمنيناها، وكم من أصدقاء فقدناهم أو هجروا بيوتهم  بسبب هذا العذاب، غادروا وأصبحوا في أماكن بعيدة، بعيدة جدًا.


بدأت أستوعب ما حدث ببطء، شعرت بفرحة غامرة لكنها كانت أيضًا مشوبة بحزن، كأن هذه الفرحة لم تكن كافية لملء الفراغ الذي تركه هذا التاريخ في قلبي. قررت أن أعود إلى النوم، كأنني أحتاج إلى بعض الوقت لأستجمع قواي. استيقظت صباحًا، أردد كعادتي: "ارحل ارحل يا بشار"، لكن هذه المرة تنبهت أنه رحل بالفعل. فتحت هاتفي، تصفحت صفحات مواقع التواصل وقرأت الأخبار، نعم، رحل! الحقيقة بدأت تتجلى أمامي، بدأت عمليات تحرير السجون، وكنت أتنقّل بين فيديو وآخر أبحث عن وجوه أعرفها، أبحث عن أصدقاء فقدتهم، عن أحبائي. راجعت الأسماء بعناية، لعلي أجد أحدهم، لكن لم أجد أياً منهم. إذا لم يكونوا من بين المعتقلين المحررين، فأين هم إذن؟


انهالت الفيديوهات علينا بشكل كثيف، كل واحد منها يحمل قصصًا، وجوهًا، دموعًا، وأملًا….. رأيت فيديو لإحدى المعتقلات تصوّر الفرع ٢١٥، ذلك المكان الذي احتجزوني فيه بعيدًا عن بناتي. شعرت بقشعريرة حين شاهدت المكان الذي كان يوماً سجني، المكان الذي عاشرت فيه الخوف والانتظار.


بدأ أصدقائي بالرجوع إلى سوريا واحدًا تلو الآخر. أرى في عيونهم فرحة كبيرة، حبًا عميقًا لدمشق وكل المحافظات، ورغبة لا تُقاوم في إعادة بناء سوريا، التي هي بحاجة ماسّة لأبنائها.


أصبح السؤال الأول بيننا خارج سوريا: هل ذهبتِ إلى سوريا؟ هل تنوين الذهاب؟ متى ستذهبين ولو في زيارة قصيرة؟ هنا بدأ الصراع في داخلي، وبدأ سؤال يحفر في  رأسي بشدة: لماذا لا أرغب حقًا في العودة، ولو حتى للزيارة؟


السبب الذي كان يمنعني من الذهاب قد زال، فلماذا لا أذهب؟ بغض النظر عن وضع الجنسية أو أي عقبة أخرى، لم أكن أرغب في ذلك، لم أكن أريد، ترى أما زلت خائفة؟


توالت الأيام والليالي دون أن أشعر بمرورها، كأنني أعيش في عالم آخر؛ أمضي الوقت في مطبخي، أشرب القهوة وأشرد بلا هدف، بلا طموح. شعوري لم يتغير، لكن ما تغير هو أحلامي، فمنذ خروجي من المعتقل الذي دخلته في ١١/١١/٢٠١٣، لم أرَ السجن سوى مرة أو مرتين في منامي، أما الآن فقد أصبح السجن يعيش في داخلي، أراه كل يوم، وأشعر به في كل خلية من جسدي، وكأنني ما أزال هناك. لكن لماذا؟ ألم ينتهِ كل شيء؟


ذهبت إلى موعدي مع طبيبتي النفسية، أخبرتها بكل ما في داخلي. استغربت وسألتني عن تفاصيل تجربتي، عن أحاسيسي ومشاعري. وفجأة، سألتني سؤالًا صادمًا: "هل تحنّين إلى السجن؟" كان سؤالها بمثابة الصدمة، كيف يمكنني أن أحن إلى ذلك المكان الذي كنت أتعذب فيه؟ لكنني فُزعت، والغريب أنني لم أجبها بلا، لأنني لم أكن متأكدة من جوابي.


بدأت أتحدث عن تلك الفترة؛ كيف كنت أنتظر يوم الزيارة بفارغ الصبر، أكتب الرسائل وأصنع أساور الخرز لأعطيها لبناتي... كيف كنت أستيقظ مبكرًا، يملؤني شعور بالفرح الكبير... كيف كنت أنتظر أن ينادي الشرطي علي اسمي، فأركضَ باتجاه بناتي، يسرقنا الوقت سريعًا وتنتهي الزيارة، ثم أعود إلى المهجع، أتناقش مع رفيقاتي المعتقلات ممن جاءتهم زيارات بدورهنّ عن أخبار الأهل وعمّا يجري خارج أسوار السجن، وأبدأ بالانتظار من جديد.


كنت أنتظر الزيارات، مواعيد المحاكم، ويوم الخروج. أحلم بكل يوم منها، ماذا سأفعل عندما أخرج أنا وابنتيّ! أين سنذهب؟ ماذا سأشتري لهما؟ كيف أعوّضهما عن الفترة التي تركتهما فيها؟ كيف سأواصل مسيرتي الفنية في الدوبلاج والمسرح والتلفزيون؟


لكنّ ما حدث لاحقاً أنني خرجت، وبعد فترة اضطررْتُ للذهاب إلى السودان، هربًا من مضايقات قوات الأمن والمخابرات، وكخطوة أولى للحاق بابنتيَّ في بلجيكا.


أمضيت سنتين هناك، ثم وصلت أخيرًا إلى بلجيكا، وللصدفة الغريبة وصلت في نفس تاريخ اعتقالي، مع فارق سنة، ١١/١١/٢٠١٩.


التقيت بابنتيَّ بعد فراق ستّ سنوات، لقد كبرتا كثيرًا، لم تعودا تلك البنتين الصغيرتين اللتين تركتهما.


وبعد فترة، شعرت بأن هناك شيئًا ما قد تغير؛ ترى ما الذي تغير؟ من الذي تغير؟ ماذا بعد؟

غربة...


أخبرتني طبيبتي أن فقدان الأمل بكل شيء قد يكون السبب. في السجن، كان هناك حلم دائمًا، حلم الحرية، حلم الكرامة، حلم أن يأتي يوم ويتغير كل شيء. والآن، أمام الواقع الصعب والمؤلم، تبدد كل شيء.


لقد أوقف التحرير ما كنا نعيش ونقاتل من أجله: الحرية والكرامة. وهذا، في نظرنا، سيكون فقط بعد إسقاط نظام الأسد ومنظومته.


لم أعد أشعر أن هناك معنى لوجودي. تأثرت صحتي النفسية والجسدية بشكل عميق نتيجة كل هذه التجربة، فالجرح لم يكن جسديًا فقط، بل كان في الروح والعقل أيضًا.


الغربة، فقدان الأمل، التغير الكبير في حياتي، كل ذلك زاد من معاناتي النفسية. العلاج النفسي كان خطوة مهمة، لكن الطريق ما تزال طويلة وشاقة.


أنا اليوم ما زلت في رحلة استعادة ذاتي، أبحث عن معنى جديد للحياة بعد كل ما مررت به، لكني أؤمن أن هناك نورًا في نهاية النفق.


هذه قصتي، رحلتي مع الألم، الأمل، والحرية.



سمر كوكش، ممثلة وناشطة سورية.



 
 

المقالات المنشورة على الموقع تعبر عن رأي الكاتبة فقط ولا يتبناها المركز أو القائمين على العمل

©Adalaty 2023 

bottom of page